لا شك أن غضبه الشديد من إقالته من عمله تعسفيا، جعله يبدو أمامي كقطرة زيت تتقلب على صفيح ساخن، فلا يكاد يستقر في مكانه، حتى يغيره، وهو يفح، ويلطم بيديه، ويتناول سيجارته، ويشد دخانها، وينفثه بتألم، وهو يصور قهره من منافس خطير، تسبب بهدم علاقته القوية القديمة مع صاحب الجمعية الخيرية، بعد أن أقنعه بفساده وضرورة التخلص منه.
ويلوم نسفه:
أنا الغلطان، أنا الغبي، الذي سمحت له بالعمل في جمعيتنا، ولم أكن أدري أني أحتضن حية رقطاء.
لقد تقدم لي لأقبله متطوعا، ولا أدري كيف أعجب به صاحب الجمعية الخيرية، وقَرَبَهُ من مجلس الإدارة، وجعله ينبش في أوراقنا، ويلسع بالسم أول ما يلسع قلبي.. أنا أستحق كل ما يحدث لي.
ينظر لي ببسمة صفراء، ويعود للوقوف أمام النافذة، ويخرج لسانه:
جمعية خيرية..!
أي خير يرتجى منها، ومن وجه صاحبها البخيل، المحتال، الطماع؟
ثم يقترب نحوي ويجلس نصف جلسة على درج المكتب، ويداه ترتعشان، وبصوت يتعالى:
أنا أفنيت عمري خادما لهم، ويطردوني، وبدون سبب، أنا من كنت أغطي على أعمالهم الفاسدة، المخادعة، حينما يبلعون ملايين المتبرعين، ولا يذهب منها للمساكين إلا عبوات تمر التبرعات، والملابس المستخدمة المهترئة، والأرزاق، التي تهدى للجمعية.
وأخشى أن أرد، فيتوقف عن فضفضته المستغربة:
منظومة الجمعية مربحة لهم، خصوصا وأنها لا تخضع لزكاه، ولا ضرائب، ومكافحة الفساد لا تشك فيها، وحتى مقراتها وسياراتها، مهداة من محسنين، وأغلب من يعملون فيها متطوعين، لا ندفع لهم قرشا.
ثم يقوم مجددا ويتجه نحو النافذة، ويضرب طرفها بقبضته:
كنت أفضل من أدارها لهم، فلدي عدد ضخم من الشهادات الفخرية، وشهادات مشاركات في كل الفعاليات الخيرية، ودروع وأوسمة من دول عديدة، وصور مع أكبر مسؤولي الدولة، وهذا كله لم يشفع لي عندهم، فيتم التخلص مني بكل سهولة، وكأني لا أعول أسرة كبيرة..
وكنت أعتمد على مرتبهم الضخم، وعلى بعض ما أتمكن من تمريره دون تسجيل على سجلات الجمعية.
ويبحث في جيوبه، ويستخرج كومة كروت عمل شخصية:
تصور لقد قمت بالتحدث مع كل هؤلاء المحسنين، ووجدت أن من تم تعيينه بديلا عني قد قام بالاتصال بهم، وتحذيرهم من التعامل معي، فلم يقم أيا منهم بتطييب خاطري بعمل عندهم، أو بأي تعويض، أو حتى كلمة طيبة!
ثم ينفخ دخان سيجارته:
عملاء مظاهر وزيف، لقد تهربوا من تحديد مواعيد معي لزيارتهم، ورفضوا توظيفي في شركاتهم، وكأني أصبحت مصابا بداء السل، لا يريدون أن يلمسون يدي، وكل ذلك بسبب تواصله معهم وتخويفهم مني.
وينظر من خلال النافذة لصورته على الزجاج:
أنا المخطئ، أنا من لم يوثق وظيفته رسميا، ويجعل بينه وبينهم عقد ملزم في نهايته بتعويضات لي، حتى لا يتم التخلص مني بكل سهولة.
تصور.. حتى سيارتي، وسيارة زوجتي، وسيارات أبنائي سحبوها مني.
أنا أستحق، فكم جمعت لهم من التبرعات، وكم أخلصت في وضع قوائم الأيتام والمعاقين والمرضى والفقراء، ممن كنا نعتمد عليها في جمع تبرعاتنا، وكنت أنا من يخترع لهم الطرق المبتكرة لنيل المزيد من التبرعات، وكنت أنا من يتواصل في كل مناسبة دينية أو يوم عالمي مع المحسنين، بل إني أنا من أقنعت الكثير منهم، لجعل تبرعاتهم دائمة، لا تستلزم أي تواصل.
ثم يتف على الأرض:
قمة الحقارة، فلسرع ما تناسوا أعمالي، وكنت أجمع الإعلاميين والمشاهير والمثقفين لشرح أعمالنا الخيرية، وجعلهم يكتبون عنا، ويزيدون من تبرعات الخيرين، وأنا من كنت أبدع في تضبيط الدفاتر، بطرق لا تخر بنقطة ماء.
ثم يصرخ بغضب:
أنا أستأهل كل ما يجري لي، ولن أصمت، وسوف أكتب لهيئة النزاهة، وأطلعها على كل ما كان يحدث.
ثم ينخفض صوته فجأة:
لا.. لا .. نزاهة ممكن توديني أنا في داهية، ..
ثم بغضب شديد ينظر نحوي مستغربا:
من أنت ؟
أرجوك.. هذا ليس للنشر، ولا بد أني بالغت، ومن الأفضل أن أتوقف هنا، فربما أن ما قلته لك مجرد تنفيس عن غضب!
أرجوك، أنا لا أريد زيادة النزيف، ولا أن يكن حالي موت، وخراب ديار.
ثم يرفع هاتفه:
لا بد أن أطلب منهم على الأقل أن يرسلوا لي بعض التمور، والملابس مؤقتا، وحتى أتمكن من إقناع مؤسسة خيرية أخرى، أن تقبلني متطوعا عندها.