جلس أمامي وعلى وجهه الكئيب ترتسم كل ألغاز البشرية، بقسوتها، وغياب موازين عدالتها، ونظرته تتلقفها الأرض، وتعيدها بشدة إلى جبهته، دون مضرب ولا شبكة.
كيان محطم المعنويات، بعد رحلة مريرة مع المجهول استمرت عدة سنوات، حتى وجد نفسه في هذا الملجأ البارد.
في احدى قدميه قدم صناعي بديل ركيك الصنع، وفي الأخرى حذاء واسع، منقوش على طرفه شعار لجنة إنسانية؟
يسكن خيمة مائلة الجوانب، سبق أن سكنها العديد من أمثاله، وهو ببقية ما تجمع في جوفه من مخاوف، يشاطر سكانها مهجعهم منتظرا قرار نقله لجهة أخرى، لا يختار مكانها، ولا أوانها، ولا يستبعد أن يتم لفضه من مجتمعها فيعود مسيرا بين العشوائية وانعدام الوجود.
أنظر له بتمعن رغبة في الوصول من مظهره إلى جوهره، فيرمي في طريقي كلمات مكسورة الخاطر، دون أن يرفع عينه عن الأرض:
أنا عدم أنا لا شيء، أنا العنصر المضاد لحس الإنسان، لا أشابهه، لا أختلط به، ولا يشعرني بالقرب، ولا يربطني معه غير رابط الادعاء بالرحمة.
ينظر نحوي، وكأنه يتنبه لوجودي أول مرة:
أنا لم أعد أدري من أنتم، وأكاد أجزم أنكم لا ترونني، بقدر ما ترون خيلاء أحزانكم المؤقتة، بدمعة كاذبة، تدعي تكامل حس ومشاعر وحشيتكم، تدلسون على بعضكم متلبسين بالرحمة، رغم إني أشعر بزيف ما تقولون، وما تفعلون.
ثم يتناول بقايا كوب شاي أسود كان بالقرب منه:
أنا لا شيء يربطني بحياتكم، ولا بكوكب تعيشون فوقه، أهلي فقدتهم في كابوس أسود متعدد المناظر، ودون أن يدركوا لماذا كانوا هدفا للغير، وبيتي المتهالك احترق، فظللت أهرب، لا أعرف من ماذا، وما هو ذنبي، ولم أعد من ساعتها أستطيع منع سقوط قناطير الرزايا فوق رأسي وجسدي، وعقلي، ونفسي، بكل جنون.
يحك فروة رأسه، التي يتضح فيها أثار عدة طعنات، وحروق لم يكتمل اندمالها:
لا أدري، لماذا يستلذون بتعذيبي، أنا لست جميلا حتى أغتصب، ولا مجرما ليتم ضربي بكل عنف، ودفعي للعمل مقيدا، في أعمال حيوانية، لا أجيدها، ولا أعرف المقصود بها، بشر شياطين يحملوني ذنوب عقدهم، ويحملونني الأوزان، والأردان، والسير لمسافات وصعود الجبال حافيا، معرضا نفسي للخطورة التعلق فوق حبال رثة، وأنا أحمل، ما يُحرم دوليا، أنقله من يد قوية، ليد غش تستلم، وتعود على جسدي باللكم والركل، ووجهي بالبصاق، والتحقير.
يتلمس جرح طرف ركبته المتورمة: خرجت من بلدي فارا، وأنا لا أدري أين ستأخذني خطواتي الحافية، ومرات كنت أجد من يقودني، وكثيرا، ما أجد من يستغلني، وكم باعني سمسار لخائن، وكم أمسيت مكبلا في عشة مزدحمة بالأنين والنواح، بين مئات الرؤوس المنهكة المريضة من حولي، فلا نجد مكانا نمد أجسامنا فيه، وكم وجدت نفسي فوق أخشاب مفككة، وسط هياج البحر الهائل الغاضب، وأنا لا أعرف العوم، والبرد يغرس أظافره في فقرات عنقي وظهري، وأطرافي، والجوع يعوي وسط أمعائي المتجمدة، والحياة، تسخر بي، وتقذفني لعمق الخوف، ووسط الأمواج، لا أدري، لماذا، وكيف، يحدث لي ذلك، وهل هذه حياة مكتوبة على الجميع، أم أني أنا وحدي في فرادة مأساتي.
يهرش بطنه الملتصق بظهره: ورغم أني هنا، منذ عدة أيام، ولكني لم أعد أستسيغ أن أمضغ، أو أحرص على البلع، وكم فكرت بأن أنهي بنفسي، بشاعة غدر مناظر هذه الحياة، المرعبة لي، حتى في منتصف غفوتي المرهقة، حين تهجم علي الكوابيس بأشنع أنواعها، فأصحو، مرتعبا، لأجد نفسي، ما أزال أغلب حقيقة تعيسة، في هذا الحال، الذي يصعب العيش من ضمنه، وأنا أترقب الكارثة القادمة.
لقد كان عندي أم عجوز، تلقت رصاصات عديدة في صدرها الذي أرواني، أمام عيني، وزوجة أذلوها، وضربوها حتى الموت لأنها قاومت شذوذ رغباتهم، ولم تستسلم لأعمالهم القبيحة، وكان لي طفلة صغيرة، كانت فرحتي، قبل أن يطفئوا أنوار عينيها بالاغتصاب أمام قيودي.
ثم ينظر لعقد أخضر حول رسغه اليمين: لقد أصبحت رقما، بلون زاهي، لا اسم لي، ولا حقيقة، إلا عندما يعرضون صورتي، في الصحف، والأفلام، مع كلام كثير، عن أمل جديد!
أي أمل يمكن أن يحدث لركام تعيس مثلي، أليس من الأفضل لي ولكم لو أنزل إلى قبر، وأترك لكم الفرصة الكاملة، للعيش بزهو كذباتكم، والتفاخر بأعمالكم الإنسانية؟