من قصاصاتي ......
الكاتبه/ البتول جمال تركي
(الحرب النفسيّة )
أصعب وأشرس وأعقد الحروب التي يخوضها الإنسان هي حربه مع نفسه ، ورغم اجتهاد جميع علماء النفس والفلاسفة لإيجاد طرق أو حلول لإيجاد الصلح واستتباب الأمن والسلام بين الإنسان ونفسه ، إلا أنها باءت بالفشل الذريع ... فماهي هذه الحرب الشعواء وكيف تقوم وماهي أسلحتها ؟ .
ولكي نعرف الإجابة على هذه الأسئلة ، لابدَّ لنا من معرفة خبايا وأسرار النفس الإنسانية التي لا تهدأ ولا تستريح في شنِّ الحروب مع الجسد والقلب والعقل وأحياناً ينتصر العقل أو القلب ، ولكن غالباً ما تنتصر النفس وهي الحالة الأعمّ والأشمل .
ولن نستطيع كشف سرِّ النفس إلا عن طريق خالقها ومسويها وقد شرح لخلقه طريقة التسوية فقال عزَّ وجلّ : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) والتسوية هي سيطرة وهيمنة الخالق على المخلوق كما قال في آية أخرى : ( الرحمن على العرش استوى ) أي هيمن عليه وأصبح تحت جبروته جلّ جلاله ، ونعود لخطورة النفس في أصل خلقتها بسبب تواجد الخير والشر بشكل متساوي فيها ولكنَّ لطف الخالق وعدله لم يترك الإنسان لسيطرة النفس فقد خلق للقلب سلطة وللعقل سلطة كما للنفس سلطة حين قال : ( إنَّ النفس لأمارّة بالسوء ) وأمارّة هي فعل أمر بصيغة مبالغة أي النفس الإنسانية غالباً ما تأمر صاحبها بالسوء وتقوده إلى مهلكته وخسارته ولا تكتفي بذلك بل تقود صاحبها للكبر والشعور بالعظمة وترتدي ثوب الكبرياء لتزاحم خالقها في عظمته وعزه وكبريائه ، رغم أنها مقيدة بالتسوية السابقة عند الخلقة فهي تحت سيطرة قيود الموضوعية الإلهية التي لا مفرَّ منها وهي : الموت والمرض والعجز والجهل ، وهي النفس ( أي الأمارة ) هي النفس التي قضى كل فلاسفة الدنيا على شرحها وفكِّ عقدها وجميع نظرياتهم تقف عندها لأنها بالنسبة لهم حسب نظرية فرويد الشائعة في العالم المادي حالياً والمتجلية بشكل واضح في زحمة المدن الكبرى حيث ضياع الروح في طغيان المادة واللهاث الدائم للحصول عليها وتزداد ضغوط النفس لطلب الرغبات الجسدية والموضوعية حتى تقود صاحبها إلى البحث عن هذه الملذات من خلال المخدرات ليعيش عالم اللذة في خياله فقط فيكون الهلاك محتماً إن لم يتدارك نفسه ويرجع لمحاسبتها ، ولم يترك الخالق هذه النفس دون أن يصف لنا العلاج وكيفية لجمها وإبعادها عن خطر هلكتها ، ففي كتاب الله تعالى العلاج والدواء ، وكما يقول المثل الدارج : العافية درجات .... وبطبيعة الحال الدرج هو وسيلة للصعود إلى الأعلى كما هو وسيلة للنزول إلى الأسفل وللإنسان حرية القرار بالصعود والترقي أو الهبوط والتدني فالنفس الأمارة هي مركز منتصف الدرج وعلى صاحبها القرار بالنزول إلى منحدر الهلاك أو بالصعود فيها إلى مراتب إنسانيته التي خلقه الله من أجلها وقمة هذه المراتب هي العبودية لله .
وأما أول درجات العافية فهي درجة النفس اللوّامة فقد مدحها الحق بقوله : ( فلا أقسم بالنفس اللوامة ) وهي النفس المجاهدة التي تحارب الأمارة لتتخلص منها وتعتبرها مرض لابد من الشفاء منه والدواء هو اللوم والتأنيب حتى إذا استوفت النفس اللوامة وانتصرت تنتقل إلى درجة أخرى وهي النفس المطمئنة وهي أول طريق للرجوع إلى الخالق وهي النفس التائبة التي خرجت من ربق عبودية النفس الأمارة فكساها الحق بنور هديه وهي درجة لا يستهان بها لذلك مدحها الحق وخاطبها بخطاب التقدير والتعريف فقال : ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) الغالب يقرأ هذه الآية ويمر عليها مرور الكرام ولكم هذه الآية تحمل بين طياتها تقدير الخالق للنفس المطمئنة ، وكيف نصل بنفوسنا إلى هذه الدرجة يا ربِّ ؟ والجواب في قوله تعالى : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) وفي هذه الدرجة تصبح النفس الإنسانية خاضعة للقلب الذي يذكر الله في كلِّ أحواله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
ثمَّ يترقى بنفسه ليطلب الأعالي فماعادت النفس ترضى بالدنيئ لأنها ذاقت حلاوة الإيمان واكتست بنور الرحمن فترقى إلى النفس الراضية وهي النفس التي لا تتأثر بحوادث القدر والثابتة على تغير الأحوال فلا يغريها غنىً ولا يفجعها أو يخيفها الفقر ولا تسخط لفقد شيء ولا تفرح أو تندهش بحصول شيء فهي وصلت إلى يقين ورضى بقضاء الله تعالى عليها وأقرت له بالعبودية وعدم المعارضة وسلمت أمرها للخالق في جميع أقدارها ، ثمَّ تأتي المنحة الإلهية والنعمة الكبرى الربانية بخلعة رحمانية وكسورة نورانية ألا وهي النفس المرضية التي استحقت بجدارة رضى الرحمن المنان وهي درجة الإنسان الكامل من الأولياء والعارفين وهم قلة كما وصفهم الحق بقوله : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) .
اللهم نسألك أن تعيننا على أنفسنا لنرتقي بها إلى مقاماتها العليا .
بقلم : البتول جمال التركي