قصيدة الشمعة للشاعر حسن الزهراني من تلك القصائد الطلية المنسابة التي تحل في قلبك كالسلام او الطمانينة ولست محتاجا الى كثير من ادوات البلاغة والنقد والتاويل لتدلف إليها وتتجول في أفيائها لأنها سهلة تبذل كفيها دون تكلف تاخذك إلى معانيها العميقة عبر سلسلة من الصور الرائقة بعيدة كل البعد عن التكلف والتعقيد ولا عجب أن وجدت مثل هذا القبول والاحتفاء لدى الناشئة وأوليائهم وإنها مرشحة لو طبعت في كتاب أن تطرق أبوابا مدارس ومنازل بعيدة لما فيها من سهولة المأخذ وعمق المعبر.
هذه الشمعة الأم أو الأم الشمعة اختار لها الشاعر من الأساليب أقربها للنفس وأقدرها على النهوض بالشحنة الوجدانية العاطفية ونعني بذلك الاساليب الإنشائية التي يوكل لها اللسان العربي مهمة التعبير عن الانفعالات والاحاسيس من نداء ورجاء وتمن وحض وأمر ونهي واستفهمات ولئن كان الخبر يحتمل التصديق والتكذيب في اللغة فالاسلوب الانشائي ليس يحتمل مثل ذلك المقياس لأنه أسلوب العاطفة والوجدان واذا تتبعنا قصيدة "الشمعة" للزهراني وجدنا أسلوب النداء طاغيا على الخطاب فالشاعر يرفع صوته بالنداء راجيا قربا من هذه الأم التي قد تكون قريبة في المكان أو بعيدة كما يمكن أن تكون وجيدة أو فقيدة لكنه يستقربها عبر هذا النداء ويكسر المسافة والزمان ....يا شمعة ...يا بسمة يا بلبلا يا نخلة ...يا نحلة ...ان المنادي يتغنى ويريد ان يشرك المنادى بهذا التغنّي حتى يكون هناك تمتع واستمتاع لان هذا المنادى صاحب افضال كثيرة على المنادي لذلك اقلها أن " يسعد النطق إن لم تسعد الحال على حد عبارة المتنبي .
ولم يكن النداء هو ما أوغل الشاعر في استعماله كأنه بذلك يستدني أمه ويكسر حواجز الزمان والمكان ليستقربها ويحاورها ويتامل وجهها وينشق عبقها بل إنه استعمل الاستفهام وهو من الإنشاء أيضا لكنه الاستفهام الذي يطرحه لا ليروم جوابا بل لينبه من خلاله إلى قيمة الام وعظيم قدرها قي حياته وحياة الانسان عموما انه السؤال الذي يشعر الابن بعجزه امام أفضال امه وعميم تضحيتها ومحبتها التي تغرق فيها من تنجبهم لا تريد جزاء ولا شكورا بل لانها تؤدي انبل مهمة حباها الله بها واوكلها إياها دون منن او كلل .
لهذا وغيره من تضحيات تنثال أسئلة الشاعر سيلا وجدانيا مدرارا
ماذا سأكتب عن نهر الحنان وهـل
يُطيق حملَ شعوري نحوك الـورقُ؟!
كم ليلةٍ من ليالي العمـر داجِيـةٍ
تنام عيني، ويضني عينَك الأرقُ؟
وقد كان الشاعر يتساءل متعجبا معددا ما يذكره من بعض افعال الام عساه يحيط بهذا الكائن العظيم الذي اجله الله واكرمه واوصى به لجليل قدره ومكانته ودوره في ان يحفظ النسل ويعمّر الارض ويشيد بنيان الاخلاق ويمنع الوجود من التبدد والتلاشي
كم ليلةٍ من ليالي العمر داجِيةٍ
تنام عيني، ويضني عينَك الأرق
وكم سكبتِ دموع الشوق ساخنة
مدى غيابي ، وأدمى طرفَك الأفقُ.؟
إنه الاستفهام الممهور بالتعجب الداعي إلى فتح العيون والبصائر والقلوب لتعي قيمة الام فلعل بعض الغافلين او الجهلة ينسون او يتناسون ما قامت به الام ايام كان اللحم غضا والعظم طريا ويأخذهم الزهو والكبر عنها إذا ما اشتد عودهم ووهن العظم منها.
ولعل ما زاد قصيدة الشمعة حسنا ومنحها جواز العبور الى قلوب الناشئة والكهول هذه الصور الشعرية الجميلة السلسة التي كانت بين تشبيه واستعارة قريبة مستندة الى معجم الطبيعة بكل مدلولات الخصوبة والرواء والحياة .
فالام ماذا إن لم تكن بستانا مزهرا باشجاره وزهوره واطياره وعذب مياهه إنها جنة الدنيا بلا منازع وهي رحيق الحياة وطيبها ولحنها العذب لذلك شبهها الشاعر بالوردة والنخلة والنحلة والبلبل والكوثر ولكن الصورة الابلغ والتي اختارها الشاعر ليجعلها عنوانا لقصيدته هي صورة الشمعة التي تبدد الظلمة والوحشة وتنير درب الولد والبنت وتدلهم الى السبل القويمة وهي إذ تضيئ دياجي الحياة امامهم وتدرأ عنهم مضارها فإنها تفعل ذلك بكثير من الجهد والتعب دون ان ننسى مسيرة ما قبل الوجود الفعلي وهي مرحلة الحمل والولادة وما يصحبهما من عنت وقد كان القرآن أحسن من أحاط بهذه المسيرة الشاقة
في قوله تعالى :
" وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا"
الاحقاف الاية ١٥
على أن هذه الوظيفة التي تؤديها الام الشمعة والمتمثلة في إنارة درب الابن إنارة مادية ومعنوية- اذ كم تقضي الام مع ابنها وابنتها من سنة وهي ترعى وتسهر على كل صغيرة وكبيرة حتى يشتد العود ويتم الانفصال بينهما هذا إن تم - لا تكون الا باحتراق هذه الشمعة وضمورها التدريجي فالصحة تضعف والعين تعشى والسمع يثقل والخطوة تتعثر والراس يشتعل شيبا والذاكرة يصيبها الوهن.فالشمعة التي تكون في بدايتها ذات عنفوان تضعف وتتآكل تدريجيا حتى تنطفئ وتموت وبودها لو بقي فيها قبس قليل يصاحب الابن أطول وقت ممكن لكنها سنة الحياة.
هكذا كانت قصيدة الشمعة للشاعر حسن الزهراني لوحة فنية معجبة ورسالة شعرية اخلاقية تعلي قيمة الام وتجعلها ايقونة الوجود المشعة التي لا تفيها كل الاشعار وكل الاغاني واللوحات حقها .
الشاعرة
*فوزية العلوي*
تونس
* قصيدة (الشمعة) مقررة على طلاب وطالبات الصف الأول متوسط .