لا شي يبدأ من لا شيء وينتهي بلا شيء، هكذا هي المعرفة والعلوم، وما هو معنوي ينطبق عليه ما ينطبق على المادي (تقريبا) إن لم يكن تماماً.
فالمعرفة تراكمية تتوالى مع العصور ومع الطبيعة ومع الحضارات، وتنموا وتزدهر وتتجدد، ولكنها لا تنقص وإن توقفت في فترة من الفترات، ولنا أن نفخر بالعصر الذهبي للحضارة الاسلامية التي بدأت من دمشق إبان حكم الدولة الأموية، ثم في بغداد عندما جمع أبا جعفر المنصور الكتب والتراجم حتى ضاق بها قصره فأسس هارون الرشيد (بيت الحكمة)، والتي جمعت فيها كل المعارف والعلوم من الحضارات الاغريقية والهندية والفارسية. حتى أصبحت أعمال الترجمة من مختلف اللغات إلى العربية من اهم اعمالها ، ولم تكتفي بمجرد هذا بل إنها قامت بتعلم وتدريس كل راغب في تلقي العلم(دون التقيد بسن معين) هذه العلوم، حتى أضحت الدار بمثابة جامعة تحوي جميع التخصصات.
كانت تقدم العلوم والمعارف والحضارات لراغبيها بانفتاح كبير بلغة عربية وهوية إسلامية.
لم يتوقف دورها عند الجمع والترجمة للمعارف؛ بل تجاوزه إلى الكثير من الاضافة والتطوير لهذه العلوم في شتى المجالات؛ مما جعلها مصدرا ضخما حفظ للبشرية كما هائلا من المعارف لا زال العالم ينهل منه حتى اليوم(رغم تدمير الهالك هولاكو لمعظمها).
ونتطرق هنا لواحد من أبرز شخصياتها والذي كلف بالاشراف عليها إنه المفكر الكبير موسوعة العلم (الكندي) والذي يعرف باتباعه لمدرسة ارسطو، إلا أن هذا لم يمنعه أن يكون أول من قام بمقاربة فلسفة افلاطون مع ارسطو، وكان أول فيلسوف عربي مسلم حيث عرفها بأنها الوصول بالعقل الى الحقيقة، وقال من أراد أن يصبح فيلسوفا فليقرأ كتب ارسطو وإلا فإنه لن يكون، أما عن الأفلاطونية المحدثة في الفلسفه فقد خالف أفلاطون في نظرية (الفيض) حيث يقول أفلاطون: {أن الخلق والمخلوقات فائضة عن الإله مثل أن نور الشمس فائض عنها}، بينما قال الكندي: أن الله أوجدالخلق والمخلوقات من العدم ولم تكن مجرد فيض.
كان عالما في الطب أيضا والفلك والرياضيات ويرى أن الرياضيات تقود إلى الحقائق وأنها ضرورية لتعلم الفلسفة التي تقود الى تبيان وحقيقة الاشياء، كما كان عالما في المنطق (علم الكلام) الذي يحكم العقل في الأشياء ويرى أن بعض نصوص القرآن يجب تأويلها وتقريبها للعقل للايمان بها.
أما فيما يخص المعرفه فقد خالف الكندي ماهو شائع: (أن المعرفة الحقيقية والصحيحة هي فيما يمدنا به الدين فقط)، بينما فتح الكندي المجال بشكل اوسع وفك الحصر المحدود وأعطى العقل والاحاسيس جانبا من الأهمية، وأضاف إليها المعرفة الفلسفية الفكرية التي كانت غير معروفة من قبل (من هنا ياتي كره الفقهاء للفلسفة لكونها جديده عليهم ويرون مهمتهم محاربة الدخيل والجديد والغريب عليهم في نظري)، حيث قسم الكندي المعرفة الى ثلاثة انواع هي: الأول: المعرفة الحسية وهو ما ندركه بالحواس (وماهو في الواقع)، وثانيها: المعرفة العقلية وهو ما ندركه بعقولنا مثل الرياضيات (واحد يضاف اليه واحد تساوي اثنين) وما نتعلمه في الهندسة وكذلك بقية العلوم مثل الاعراب في اللغة العربية، وكل ماندرسه وندركه وتقبله عقولنا وما شابه ذلك.
أما الثالث فهو: المعرفة الإلهية ومصدرها الله والشريعة والدين والوحي والرسل وهي مصادر حقه يقينية.
المصدر الإلهي والشريعة حقيقة مطلقة لا جدال فيها، المصدر البشري (الحواس والإدراك العقلي) تعود للفرد وما منحه الله منها وتاتي الفلسفة موهبة عقلية (حسب قول الكندي) للبحث والوصول إلى الحقيقة فلا بد لها من الإيمان بالله حتى دون وجود رسل، وبالرغم من أن هذا منطق المعتزله فإن الكندي كان أشعريا (أرى أن هذا سببا آخر يدعو لمحاربة الفلسفة وتشويهها من قبل بعض الطوائف).
كما بين الكندي ان هناك غيبيات جاء بها الدين (مثل الآخرة والجنة والبعث) فوق مستوى التفكير والعقل ولابد من التصديق بها والايمان بها لأنها جاءت من عند الله وجاء بها الوحي.
لنفتح أفئدتنا وعقولنا للعلم والمعرفة مع التمسك بعقيدتنا ونفخر بماضينا وعلمائنا وفقهائنا ومفكرينا فنحن كنا ولا نزال أمة ونبراس للأمم.