"ينوحُ على َ فقدِ الهديلِ وَ لمْ يكنْ رآهْ،
فيا للهِ! كيفَ تهكما؟
وَشَتَّانَ مَنْ يَبْكِي عَلَى غَيْرِ عِرْفَة جزافاً،
وَمنْ يبكي لعهدٍ تجرما
لَعَمْرِي لَقَدْ غَالَ الرَّدَى مَنْ أُحِبُّهُ
وَكانَ بودي أنْ أموتَ وَيسلما
وَ أيُّ حياة ٍبعدَ أمًّ فقدتها
كَمَا يفْقِدُ الْمَرْءُ الزُّلاَلَ عَلَى الظَّمَا
تَوَلَّتْ،فَوَلَّى الصَّبْرُ عَنِّي،
وَعَادَنِي غرامٌ عليها، شفَّ جسمي، وأسقما
وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ ذُكْرَة ٌ تَبْعَثُ الأسى
وَطَيْفٌ يُوَافِيني إِذَا الطَّرْفُ هَوَّمَا
وَ كانت لعيني قرة وَلمهجتي سروراً،
فخابَ الطرفُ وَالقلبُ منهما
فَلَوْلاَ اعْتِقَادِي بِالْقَضَاءِ وَحُكْمِهِ
لقطعت نفسي لهفة ً وَتندما"
أمي ما أصعب لحظة الفراق، وأي فراق إنه فراق إلى الأبد!! لن أراك فيه ثانية، ولن اسمع صوتكِ مرة أخرى؟؟
رحل الصوت الذي كان يتمتم بتسابيح الملكوت، وهاجر الطائر الذي كان يغرد بصوت السماء، فقدت المعانيسيدها، وفارقت السعادة أسبابها فلم يعد بعدها قلب يضخ الحب والعفو بلا حساب، ولا صدر يحتويفينفث عطر الأمن والأمان بلا مقابل.. هي المعنى الذي صنعه الله من رحمة خالصة ومن حب خالص ومنغفران خالص، لا يغيره كدر، ولا يبدله عقوق، إذا رحلت الأم أظلم المكان، ملكت مفاتيح نفسي.
ليتك تسمعيني لكي أقول لكِ: كنت الهواء الذي أستنشقه وكنت الماء الزلال الذي أرتوي منه، وكنت اللحافالذي يقيني لسعة البرد القارس ولفحات الهجير الساخنة، كنت الفراش الوثير الذي يقيني شظايا الحجروهوام الأرض وخشاشها، وكنت الملاذ الآمن إذا أصبحت قلقاً، وكنت مستودع أسراري دون البشر.
أي طعم للحياة بلا أمي؟
وهي الوجه الذي كنت أقرأ فيه تاريخي وأيام عمري واليد الحانية التي كانت تدفع عني برد الهم وتنفضغبار النكد .
لقد أدركت اليوم لماذا وضع الله مفتاح الجنة في يد أمي ، وجعلها تحت قدميها، لأنكِ أمي في ذاتكِ جنة، وفِيذاتكِ كل حاجتي من الطعام والشراب والدواء والحب والنعيم والأمن والأمان وسحر الوصال والالتقاء صدركأمي أعظم لي من ساكني في القصور، وريحكُ أمي أطيب لي من ريح المسك، وصوتكِ أجمل عندي من زغاريدوألحان الدنيا كلها.
جاءت لحظة الوجل، وجاءت لحظة الخوف، وجاءت لحظة الهول، وجاءت لحظة الفراق، فكنت أقول خلالأربعة اشهر وأنتِ على السرير الأبيض تفتحين عينيك لحظة وتغمضينها لحظات، هل تسمعين يا أمي هلتدركين يا أمي؟؟ بل كان الأحباب والخلان يقولون هاهي تحرك رأسها وترفعه، بل تفتح عينيها وترى منحولها، وكنت أطاوعهم من أجل حبهم لك وأقول: نعم هاهي ترانا وتسمعنا، بل وحينما تعود إلى البيتسوف تحكي لنا ألف حكاية، بل وستروي لنا ألف رواية، وستقول لنا ما كنا نقوله عند رأسها، وتسترجعالذكريات كاملة دون نقصان ولكنك يا أمي ذهبت بلا رجعة، بل ذهبت معك كل قصة وكل طرفة وكل رواية وكلحكاية!!
أمي ليتك رأيتِ معي كل من قبّل جبينك الطاهر بدءًا من ابنائي لانا ولندا ومعاذ وزوجتي مروراً بإخوانيوأخواتي وإخوانك وأخواتك وأبنائهم وبناتهم بياض الطهر في عينيك وأنتِ مسجاة على لوح الغسيلتفوح منك رائحة المسك والعنبر، وكأنك تنتظرين بشوق لمن ستذهبين إليه، وليتك رأيت من أدى الصلاة عليك،ومن تسابقوا لإلقاء النظرة الأخيرة على قبرك.
أمي ليتك تبصرين او تسمعين لكي أقول: ما اجمل وأروع جموع المعزين فيك.
أمي ليتك تبصرين او تسمعين لكي أروي لكي قصص العزاء فقد جاءنا للعزاء فيك كل الأحباب، وجاءنا كلالأصدقاء، وجاءنا كل الأقرباء، وجاءنا المسؤولين، وجاءنا الفقراء والأغنياء، وجاءنا الأطفال والنساء، وجاءناالشيوخ والشباب، وجاءنا الخدم والحشم، وجاءنا كل الجيران في بيتنا القديم فاسترجعنا الذكريات،وقالوا: كانت وكانت.
رحلتي أمي.. وتركتِ لي الحياة ليلة عزاء طويلة، فلم تعد النجوم على الأرض إلا مصابيح عزاء أقيمت بليل،لو كنت أملك من عمري شيئا لأعطيت أمي ما يجعلني لا أفارقها ساعة، هي ابتسامة الزمن ومسجل التاريخ،وطبيبة نفسي، وروح روحي،رحلت المرأة التي علمتني الرجولة، رحلت.. فأصبحت أحيا ببعض نفس وبعضروح وبعض عقل، سبحان ربي الذي جعل من قلب الأم دنيا من خلقه هو، وأسكن فيها معاني من سره هو، يدلا تعرف إلا العطاء، وقلب لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران، ووجه لا يعرف إلا الإقبال والابتسام، سهولةكل صعب، ويسر كل عسير.
رحل سر أسراري، ودليل حيرتي، وترجمان كياني، كنت أشعر أن العالم كله على صدر أمي، فإذا وضعت فيهرأسي كنت ملكا متوجا، أمسك بمفاتيح العالم بأسره.
اللهم بلغ أمي مني السلام، واجزها عني خيراً، واجعل عملي الصالح في ميزان حسناتها، واهدها بهدية منعندك، اللهم قد سلمت لك الروح، وانقطعت الأسباب إلا سببا موصولا بك، فاللهم أكرم نزلها ووسع مدخلهاواغسلها بالماء والثلج والبرد، واجمعني بأمي وأبي في مستقر رحمتك، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، في الفردوس الأعلى من الجنة واجبرعزاءنا في مصابها، واجزي الخير لكل من عزّانا واحفظ اخواتي واخواني وأهل بيتي من كل سوء ومكروهواربط على قلوبهم يا حي يا قيوم، أمين آمين أمين.