قابلته وهو في حالة ضيق وحيرة، وشعور بالخيبة، يعاود حك شعيرات صلعته، ويحاول ترتيب جداول ميزانيته، على شاشة حاسوبه، ثم يقوم بالضغط على (الريموت كنترول)، ليستجلي خبرا عاجلا ورد على الشاشة الضخمة أمامه، التي تحتوي على عدد كبير من قنوات التلفزة المحلية، والعالمية، وقنوات السوشيال ميديا، ثم ودون أن ينظر لي، يظل يفضفض، وأنا منصت:
- عملنا كل ما في وسعنا، لتقليص تعداد العاملين في صحيفتنا، والتخلص من معظم الكفاءات الإدارية والفنية، وتقليص بنود الصرف، لدرجة يبدو بعدها أننا سنقلص مرتباتنا الخاصة، ويبدو أننا لا نتمكن من تلافي الكارثة، فما يحدث لنا أشبه بانهيار جبال الجليد، التي أصبحت عرضة للتحلل، شيئا فشيئا، بأسباب الاحتباس الحراري، غير أن احتباسنا مادي صرف.
ثم يضحك ضحكة ساخرة:
- أنا أتعاطف مع دببة القطب الشمالي، فالانقراض مصيرهم.
ثم يكمل:
- الوضع في غاية الصعوبة، فنحن نطبع ربع الكمية، القديمة من النسخ، ولك أن تصدق بأن أغلبها يعود من نقاط البيع كما هو.
ثم يصدر نبرة حسرة:
- مساحات الدعايات، التي كانت مورد رزقنا، والتي كنا نبالغ كثيرا في أسعارها، أصبحنا نُحَرِجُ عليها، وبأسعار زهيدة، ونتصل بالمعلنين القدامى، ونبوس الأيادي، وللأسف لا نجد ما يشبع ولا ما يغني عن جوع.
ويُقلب في قناة رياضية:
- لم يتم دعمنا مثلما تم دعم النوادي الرياضية بعشرات الملايين، وصدقني، حتى لو تم ذلك، فسيذهب أغلبه لملاك المؤسسة الصحيفة، تعويضا لهم عن الأرباح المتدنية في السنوات الأخيرة.
ويستطرد:
- لقد قمنا بتسريح أعدادا كبيرة من الموظفين، وقفلنا بعض الأقسام، وما تزال بعضها تدار بموظف متعاون، أو اثنين.
ويتأفف فكأني سألته سؤالا، وأنا لم أنطق:
- أوف، نعم أتمسك بحسام، فهو موظف حاد على اسمه، وهو خير من يساعدنا في تطفيش الكتاب، الذين يطالبون بمكافأة، وحتى أنه يقوم بتقليص أعداد المراسلين، فلا يبقي منهم إلا من يعملون معنا بالمجان، أو بوعود مستقبلية بحقوق لا تحصل.
ثم يدير الريموت كنترول، وهو يتصفح تويتر:
- نعم، مواقع التواصل رغم سخف ما يتم نشره فيها، إلا أنها أصبحت أهم وأكثر انتشارا مما نقدمه.
الذوق العام تردى، وأصيب بلوثة مواقع التواصل، وهذه كارثة، تعاني منها ثقافتنا، ولو أننا لسنا لوحدنا في ذلك، فالعالم كله يرحل إلى ذلك دون وعي.
ثم يدير الشاشة لتصفح قناة صحيفة إليكترونية:
- الصحف الإلكترونية منافس خطير لنا، خصوصا منها من تستخدم العاجل، ونبض، واشتراكات الرسائل الفورية.
وتظهر مذيعة جميلة على الشاشة، فيبتسم بسمة خبيثة:
- التواجد النسائي، أصبح طاغيا أيضا، تفرضه الحاجة، ونحن نتماشى مع الواقع، ونقوم باستقطاب الاسم النسائي، مهما كان مترديا في ثقافته، لننافس الآخرين.
ويتنبه لخبر عاجل على وكالة عالمية:
- لا تستغرب، الخبر، لم يعد لنا القدرة على صنعه، فنظل ننتظر ما تنشره وكالات الأنباء، ونسارع في نقل المعلومة، وحتى أن التصرف بالمحتوى، لم يعد ممكنا لنا بشكل دائم، نظرا لإمكانياتنا المحدودة.
ويتناول بيده كوب الكابتشينو البارد، ثم يقرع الجرس، ويطلب من مدير مكتبه تبديله، وينظر لي بجدية:
- صدقني، نحن نلملم أطراف الكارثة، ونعرف أننا لا بد أن نغلق أعمالنا، مثل من سبقتنا من الصحف الورقية، ولكنا ما نزال نتشبث بالنزع الأخير، ونقاوم، محاولة منا للبقاء في السوق، ر غم إصرار مجلس الإدارة والمالكين على سرعة البت في الاغلاق.
وتشده لقطة من فيلم أبيض وأسود، فيتسمع لوهلة، ثم يخاطبني:
- إنه أمر واقع، ولكني أشعر بحزن على تراثنا الثقافي القديم، فمشكلتنا تكمن في كيفية حفظ أرشيفنا، والذي بنيناه طوال عقود من الزمن، في حال قمنا بإغلاق الصحيفة، وتبديده، وهو أرشيف للوطن، يحتوي على حقيقة بناء وتدرج الثقافة في وطننا، وتأثيرات رموزها ونتاجهم، بالإضافة إلى الأحداث، والأمور السياسية، التي مرت بوطننا، بمفهوم محلي، وكيف قمنا بمواكبتها بـ(المانشيت)، والقلم والصورة، والرسم، والحوار، والأدب، والفن، والمتعة.
ثم ينظر لي نظرة جادة من خلف زغللة نظارته، وهو يشفط من كوبه الجديد، ويعود ليؤكد بفخر:
- صحيفتنا رغم كل ذلك، ما تزال متماسكة، بين تهافت الصحف الورقية، وكلي أمل بأن لا نكون التاليين في منزلق الإغلاق، حتى لا أتقاعد مجبرا، ويهرب من كانوا يتابعونني في تويتر!
1 comment
1 ping
أبو أحمد
17/10/2019 at 11:26 ص[3] Link to this comment
ما يفترض به أن يمتعنا بقراءته فعل ولكنه أحزنني، فهذه المسرحية بمقالة من فصل واحد والتي تشابه بسردها تهريج وزغاريد إلا أنها أكثر صراحة ولا تفترض التفكير والتأمل لاستنباط المعنى ذكرتني بإحباطاتي!!
والله يا دكتور أنا حزين لحال صاحبة الجلالة التي باتت تضيق ذرعا بكتابها لكونها لا تستطيع أن تدفع لهم شيئا وتعتمد على من يرضى منهم بالمجان، هذا بالطبع والمهم أن أصحاب القلم هجروا المهنة وتركوا المجال لأشباه الكتاب ممن منحتهم الواسطة والمعرفة فرصة الظهور، فتنحوا جانبا لأن عالمنا البغيض بما فيه من كآبة لم يعد يحتملهم، فآثروا تركه للقمة العيش المر، فغذاء العقل يمكن الاستغناء عنه، أما الجسد فالصبر عليه يقود للتهلكة…..
هذا العالم العربي كئيب بما فيه الكفاية، فما يدفع لمهرج سخيف وتافهة من المشاهير ليطلوا به عبر لقاء تلفزيوني تتخلله عشرات الدعايات؛ يكفي لملئ خزينة صحيفة تبقيها على قيد الحياة مع رمق يسد حاجة كتابها وموظفيها ليبقوا سعاة في التنوير والتثقيف، الذي سينتهض همم أمم لتكون من الخواص لا العوام.
الفكر والثقافة والمعرفة هي بمجملها من تصنع الحاضر والمستقبل؛ لا السخافة والتفاهة التي يدفع لها لكي تغرقنا كل يوم ببراثنها…
كنا خير أمة ولكننا لم نعد كذلك!!!