للدكتور عبدالله الغذامي حضور متميز سواء من خلال أطروحاته المعمقة أو دراساته الثرية بدءا بكتابه الذي أحدث وقتها جدلا كبيرا " الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية" تلا ذلك دراساته المعنونة بالنقد الثقافي بين التنظير والتطبيق ليواصل إبداعه في كتابه حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية وقدرته على مواكبة مستجدات الحياة من مبتكرات تعامل معها الإنسان لتكون له رؤية في كون الشعبي أكثر بروزا من النخبة بما أسماه بالثقافة التلفزيونية
وهنا نلحظ بأن هناك غزارة في الانتاج الثقافي والأدبي إذ زاد عدد إصداراته عن خمس وعشرين مؤلفا القاسم المشترك بينها رؤيته النقدية والفلسفية في التحولات الثقافية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع ونظير هذا الجهد الكبير فقد حاز على كثير من الجوائز وتكريم من مؤسسات فكرية وثقافية لإبداعه النقدي ووجدت مؤلفاته الكثير من الدراسات من أكاديميين يتفق الأغلبية على أسبقيته في مشروعه النقد الثقافي، وكان للباحة موعد مع الدكتور الغذامي ليلقى محاضرته -في أجواء ربيعية- التي عنونها ب( عقلانية أو لا عقلانية الشاشة) وقد ارتكزت جل المحاضرة على مقولة للشريف الجرجاني وردت في معجمه الذي يتضمن معاني المصطلحات المستخدمة في الفنون والعلوم في عصره، ويتلخص رأي الجرجاني في كون ( العقل مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا) وبعد تقديم معمق عن هذا المصطلح أشار إلى أن النضج البشري وصل إلى أن اللغة أكثر من المعجزة، والعقل لا ينفصل عن اللغة كونه جزءاً منها أوجز بأن العقل متغير وغير كامل فالأنا من بنية ترتكز على الزمان والمكان واللغة وهي الذات وميزة العقل قدرته على كشف عجزه ليتحفز لمواجهة هذا العجز
فالعقل كلما زادت معرفته يكتشف قصوره ونقصه؛ ويقابل هذا العجز بزيادة الانتاج،ليضع مقارنة بين الذكاء البشري والذكاء الصناعي ليغلب الأخير لكونه الأسرع والأدق والأقوى ليصل إلى رؤية بأنه لا يوجد أحد ذكي بالمطلق أو غبي بالمطلق إلا أن الكثيرين يتنازلون عن رؤوسهم ليسلموها لرأس آخر وهي الآلة ما أوجد المذيع والطبيب والمعلم الروبوت.ويرى الغذامي أن ميزة المعرفة أنها تقوم على الجدلية كونها بالجدل تستمد الحيوية والحياة ولا تموت، وشدد على أن العقل الاصطناعي إن لم يكن أدق وأذكى وأسرع فلن يضر بالوظائف العقلية وتظل كما هي ولا خطر على الأجيال من الذكاء لأنها اختيار، مؤكداً أن رفض الأدق والأذكى والأسرع يدخلنا في اللاعقلانية، مؤكداً أن المفاهيم تتغير لكن المادة لا تتغير
مبديا وجهة نظره حول الرأسمالية بأن لها سيئات لا تحصى إلا أن من حسناتها دفعت بالاختراعات السلمية المهولة كون العلم والخبرة ضمن النسيج الرأسمالي، ما جعل الأفكار تباع وتشترى وارتفع معدل هجرة العقول، عكس المعسكر الشرقي الاشتراكي الذي لم ينتج سوى أسلحة وهذا ما زاد الفارق بينهما
ويمكن للتعليم والمعرفة البشرية أن تؤسس لذكاء يتحول إلى سلوك وهنا عاش الخيال البشري ليقدم جوانب خرافية لا يستطيع الجسد عمله مشيرا إلى الخطورة التي تنجم عن التنازل إلى الآلة مما يحتمل زيادة نسبة البطالة إلا أن الانسان يتعامل مع المستجدات ضاربا مثل الفلاح وتدرجه في العمل اليدوي مستفيدا من التقنية الحديثة فما كان مناسبا في الماضي ليس شرطا يتلاءم مع الظروف الراهنة ليعكس المقولة الدارجة( الحاجة أم الاختراع) إلى (الاختراع صار أبا الحاجة) حيث ينساق الكثيرون للمخترَع "بفتح الراء" أما لماذا فلأن الطابع البشري يطلب الجديد ليس لكونه جديدا وهذا الذي نلحظه في التهافت حصولا على النسخ الجديدة من المبتكرات والهاتف الجوال أكبر دليل على ذلك.كما وصف ثقافة تويتر بحرية التعبير أو مسؤولية التغيير،وقدفككت التصلب عند بعض الفئات، خصوصاً الفئة التي كان صوتها الأعلى فمن (تويتر) يمكن التخلص من الشحن الذهني.
الغذامي أبدى ارتياحه رغم استمرار المحاضرة والنقاش ما يزيد عن ثلاث ساعات، ورغم متاعب السفر إذ تأخرت الطائرة ما يقارب عشر ساعات إلا أن الروح الجميلة للدكتور الغذامي جعلته يتقبل هذا الموقف بروح عالية ليقدم محاضرة استثنائية جمعت بين الفكر والفلسفة واللغة