تذكرت شطر هذا البيت للشاعر أسامة بن منقذ ، وأنا أتجول بحي المسفلة القديم بمكة المكرمة ، مستعيدا ذكريات منزلنا الذي ولدت ونشأت به ، مع جدي وجدتي ، ووالدي ـ يحرمهم الله ـ ووالدتي ـ شفاها الله ـ ، داخل هذا الحي رحل منه كثيرون ، البعض بالإنتقال لأحياء أخرى حديثة ، والبعض الآخر فارق الحياة رحمهم الله ، والمسفلة وأحد من اقدم وأعرق أحياء مكة المكرمة ، وقال عنه الأزرقي في تاريخ مكة: «من الصفا إلى أجيادين فيما أسفل منه، فذلك كله من المسفلة، وما حازت دار الأرقم بن أبي الأرقم والزقاق الذي على الصفا يصعد منه إلى جبل أبي قبيس مصعدا في الوادي، ومصعدا إلى قيقعان، وما حازت سيل قيقعان إلى سويقة مصعدا فذلك المعلاة».
" وحدود المسفلة من الوسط أول زقاق البخارية الجنوبي الشرقي مقابل الحميدية وأول بيت المنصوري من الشرق، ومن الشمال الغربي سوق الصغير، ومن الجنوب يحدها جبل الشراشف، عرضا إلى جبل أبوطبنجة حيث بابور الكعكي ، ومن أحياء ومناطق المسفلة التاريخية: دحلة الرشد، والولاية، أبو طبنجة، الكنكارية، الكدوة, قوز النكاسة، والكعكية " .
ولم يكن حي المسفلة ، حي سكني فقط ، فقد كانت يضم مجموعة من البساتين التي أشار إليها في المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبدالمقصود خوجة ـ يرحمه الله ـ ، في الباب الثاني الفصل الأول تحت عنوان " البحث التاريخي المياه بمكة في أدوارها التاريخية " بقوله إن " ( العامة تقول بكرة ماجد ) ، هو ماء عين جارية ، وهذا الماء تارة يكثر ، وتارة يقل ، وكل الهيئات التي ألفت في الزمن السابق لم تلتفت إلى معرفة المجرى الأصلي لهذا الماء ، ونميل إلى أن السبب الرئيسي لهذا هو كون العين المذكورة خاصة ، وأقول خاصة بناء على أن الوضع الحاضر يدل على ذلك ، أما التاريخ فالذي يفهم منه غير هذا ، وقد انتقلت الآن إلى علي باشا ، وفي عام 1345 هـ اهتم بالأمر بعض مستأجري البستان لقلة مائها فبحثوا عن منبعها الأصلي ، وكان ذلك بإشراف هيئة ( عين زبيدة ) ، فاستمروا في ذلك إلى أن وصلوا إلى ( بيت الخزندار ) في القشاشية ، ولم يتمكنوا من التقدم نظرا لكون المجرى واقع تحت دارهم ، و أن التقدم إلى الأمام يحتاج إلى فتح فتحات في نفس الدار ، ولذلك وقف البحث عند هذا الحد " ، وفي لقاء صحفي تحدث عمدة المسفلة عبدالرحمن حجازي ـ يرحمه الله ـ ، عن أحياء مكة المكرمة عامة وحي المسفلة خاصة ، وقال : إن " ما تتفرد به هذه الحارات كثرة انتشار (المراكيز) التي ما زالت موجودة؛ وهى عبارة عن كراسي مصنوعة من الخشب والحبال يتم نصبها في وسط الحارات ويجتمع فيها كبار السن في الأوقات المسائية التي تشهد انخفاضا في درجات الحرارة، كما أن المسفلة تنتشر فيها (ترامس) الماء البارد سقيا للمشاة والمارة، ويتولى السكان تعبئتها بماء زمزم وتأمينها بشكل دائم، وأوضح الشنقيطي «أن المسفلة لها خصائص فريدة تجمع بين الماضي والحاضر وهى من المناطق المتطورة وتحوى أكبر نسبة أبراج وفنادق سكنية مقارنة بباقي مناطق المركزية ".
واليوم أقول إن هجرنا الأحياء القديمة ، وتوجهنا صوب الأحياء الحديثة ، فإن عشقنا للقديم يبقى ليذكرنا بماضينا وطفولتنا ، ويجعلنا نردد قول الشاعر :
أرجع زمان الأمس من صفحاتي
ما أجمل الأيام بعد فوات
ذكرى يعود إلى الفؤاد حنينها
دومًا إذا ذاق الفؤاد بآهات
زمن تولى من ربيع حياتنا
في ظله ما أجمل الأوقات