الأمراض تسبب الألم والعذاب للمريض وأهل المريض أيضاً ، لذلك يسارع أهل المريض للطبيب لعله ينقذه من هذه الآلام وهذا العذاب ، وهذه حالة مرض فردية نراها أمامنا وقد نعيشها في بيوتنا بلا استثناء بين الحين والآخر ، ولكن هناك أمراض عامة مثل جائحة الكورونا أو الملاريا أو أيِّ وباء آخر قد يجتاح بلدة ما أو دولة ما أو يجتاح العالم كما فعل فايروس كورونا ، وإن نظرنا إلى آثار هذا الوباء بشكل عام فإنه قد تسبب بعذاب شامل للجميع من حظر وهبوط في النشاط التجاري والخوف والهلع في أوساط الناس العاديين ووضع الكمامات ومعاناة الناس ، أليس هذا عذاب ؟ وبعيداً عن أسباب هذا الوباء ونحن مؤمنون بأنَّ الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) فلا شيء يحصل في الكون إلا بأمره وقدره جل جلاله ، وكذلك الفيضانات والزلازل وانفجار البراكين أيضاً والحرائق الحاصلة حالياً في عدة أماكن من العالم هي من أمره عزَّ وجلَّ وهي عذابه يصيب بها من يشاء ويحفظ منها من يشاء .
وكان المسلمون في أمان من العذاب الجماعي والغضب الإلهي بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ويعيش بينهم فكان الرسول الأكرم هو بذاته الدرع الواقي والحامي من نزول العذاب والأوبئة ، فلما انتقل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للرفيق الأعلى لم يتركنا الرحمن عرضة للعذاب وأعطانا وصفة لو تمسكنا بها وداومنا عليها لن يصيبنا العذاب إطلاقاً فالله هو الحق وقوله الحق فقال جلّ جلاله : ( وماكان الله معذبهم وأنت فيهم وماكان الله معذبهم وهم يستغفرون ) إذا بوجود الرسول الأكرم إكراماً لذاته رفع الله العذاب عن أمته وبعد انتقاله قال لهم لا عذاب يقع عليكم طالما أنتم تستغفرون .
إذاً الاستغفار يحمي من العذاب بشتى أنواعه لأنَّ الله أطلقه على العموم بالآية ولم يخصصه .
وهذا الاستغفار متروك لاختيار العبد كالدواء من أراد النجاة من العذاب مهما كان نوعه أو صفته تمسك بالاستغفار فإنه ينجو منه إذا داوم على الاستغفار وجعله ورداً يومياً بنظام معيّن بدون انقطاع ومن أراد أن يعيش في طمأنينة ونعيم وكأنه بالجنة فعليه بالاستغفار لأنَّ المستغفر آمن من العذاب ومن أمن العذاب فهو في راحة ونعيم وكذلك الجنة ليس فيها عذاب أو أمراض أو هموم أو خوف من مجهول ، ولتحصيل هذا الدواء العجيب والدرع الحامي والواقي فعلينا تحري أوقات الاستغفار وعندما نرجع لكتاب الله تعالى نجد الآية : ( والمستغفرين بالأسحار ) ولكن ماهو سبب تخصيص وقت السحر للاستغفار ؟ لأنَّ وقت السحر هو مائدة الرحمن الكريم فمن حضر هذه المائدة فإنه لا يرجع إلا مجبوراً مكرماً كما جاء بالحديث القدسي المشهور .
لأنه قد يكون المستغفر بالنهار على غفلة من تركيزه في طلب الاستغفار وقد يكون غالباً مشغولاً بأمور الدنيا ومتطلباتها فلا يكون في صفاء نفسي وفكري طالما قلبه مشغول بشيء آخر ولكن ساعة السحر هي ساعة خصصها الحق جلَّ جلاله لعباده الذين يحضرون ولكل عبد منهم مسألة فيعطيهم ما سألوا سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام ، وهذه الآية ( تخصيص وقت السحر للاستغفار ) موجودة في سورة آل عمران ولا نستطيع فهم معناها إلا إذا قرأنا ماقبلها فهي موصولة بالآيات التي قبلها فمن بداية الآية (14) يصف الحق أحوال الناس بشكل عام كافرهم ومسلمهم فجميع الناس لهم صفة ( حبُّ الشهوات ) فقال : ( زيّن للناس حبٌّ الشهوات ...) وعرض أصناف الشهوات ثمَّ قال في الآية (15) التي تليها : ( قل أؤنبئكم بخير ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ..... ) وهذا للذين اختاروا تقوى الله تعالى ولم يقضوا حياتهم كبقية الناس على وجه الكرة الأرضية ليس لهم هدف إلا ( حبُّ الشهوات ) والآية فيها عرض إلهي ومنحة ربانية للذين كان همهم تقوى الله وليس الانغماس في حب الشهوات ، ثمّ ذكر الله تعالى أصناف المؤمنين وصفاتهم في الآية (16) وقال هم : ( الذين يقولون ربنا آمنّا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) إذاً هؤلاء أهل التضرع والدعاء وطلب المغفرة ثمّ زاد الحق في وصفهم فقال : ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) هذه الآية فيها أسرار عجيبة فالمؤمن هو الذي يصبر في ساعة نزول العذاب وساعة الشدة والابتلاء والمؤمن صادق لا يكذب والمؤمن قانت لربه يتحرك في هذه الدنيا وهو يعلم علم اليقين بأنَّ الله يراه فيستحي من فعل عمل يغضب الله والمؤمن ينفق في سبيل الله ولو كان لا يملك إلا قوت يومه فإنه يقسمه مع السائل أو المحتاج لأنه صادق مع الله وأخيراً أضاف إلى هؤلاء : ( والمستغفرين بالأسحار ) فهؤلاء لهم خاصية القبول والأمان من العذاب بكل أنواعه .
ثلاث آيات اختصرت لنا قصة حياة الإنسان على وجه الأرض فإن حركة الإنسان في هذه الأرض مردها والهدف منها هي الحصول على الشهوات فالجميع يشقى من أجل إرضاء وإشباع شهوات نفسه فمنهم من يحب النساء ومنهم من يحب امتلاك العقارات ومنهم من يحب كثرة الأولاد ومنهم من يحب امتلاك وركوب السيارات ولأجل تحقيق شهوته ، والجميع يدرب الطفل منذ نعومة أظفاره ليكون شاطراً بتحصيل الدنيا وغفل أكثر الناس عن تعليم أبنائهم تحصيل الآخرة فينشأ الطفل ولا يعرف له هدفاً في الحياة إلا تحصيل الدنيا فيكبر ويغرق فيها وينسى حقّ الآخرة لأنه مشغول بحب الشهوات .
وقانا الله وإياكم ووقى أبناءنا وأبناءكم حب الشهوات وألهمنا حب الخيرات وحبب إلينا الاستغفار في الأسحار .....