المدرسة اليوسفية ..
مما أوقفني تأملاً وتدبراً وتفكيراً طويلاً ، قول سيدنا يوسف عليه السلام لإخوته بعد أن عرَّفهم على نفسه فقال : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) لو فكرنا ورجعنا إلى أول القصة في سورة يوسف وما فعله إخوته فيه فقد قاموا جميعاً (عشرتهم ) بجريمة نكراء بشعة يندى لها جبين الإنسانية ناهيك عن جريمة بحقّ أخيهم ذلك الطفل الصغير بدون جرم أو ذنب أذنبه في حقهم ، كانت جريمة مركبة من عدة جرائم وأخذوه بلا رحمة ولا شفقة ولا حنان الأخوة فنزعوا عنه قميصه وألقوه في الجب وحيداً وعرضة للعقارب والأفاعي والبرد في ظلمة الجب وبلا طعام مستوحشاً محتاراً يبكي ويتساءل : لماذا فعلوا به إخوته به هكذا ؟ .. ثمَّ بعد ذلك أخفوا جريمتهم واتهموا الذئب بدم أخيهم .
ولو نظرنا من الناحية القانونية لهذه الجرائم المتعددة فإنَّ الجناة يستحقون الإعدام حقاً على جريمتهم النكراء في حقِّ أخيهم الصغير البريء وهو لم يفعل شيئاً لهم ، فكيف يكون عقابهم على جريمتهم النكراء وخاصة المدعي عليهم هو نفسه وهو في مكانة عليّة يجلس على كرسي الحكم٠ والحرس من حوله وإشارة واحدة منه تكفي لتقطيعم إرباً إرباً ... لا لم يفعل ذلك بل فاجأهم في ردة فعل منه لم يكن إخوته يتوقعون منه هذا الكرم الأخلاقي ، وهو قمة الإحسان لأنه نبيٌّ ابن نبي ابن نبي ابن نبي ...
ولأنه نبيّ ويحمل أخلاق النبوة فلا بد أن يكون تعامله مع إخوته مختلف لكي يعلم الإنسانية درساً في التسامح الأخوي فقال لهم : ( لا تثريب عليكم ..) ومعناها في اللغة : لا عتاب عليكم ...حتى مجرد العتب ترفع عنه وعفى حتى لا يحرج إخوته أقفل هذا الباب لأنهم في النهاية إخوته .
إنَّ الله تعالى لم يذكر لنا قصص القرآن إلا لكي نتعلم منها العبر ونتعلم كيف تكون مكارم الأخلاق في التعامل بين الإخوة فقال في وسط السورة تنبيهاً لنا ونحن نقرأ : ( لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين ) أي نحن الذين نسأل في حيرة من أمرنا عندما يحصل خصام بين الإخوة ماذا نفعل ؟ .
القرآن الكريم يدعونا لكي نسمو بمكارم الأخلاق ونكون من المحسنين والله سبحانه يحبّ المحسنين ، فإنَّ الأخ أو الإخوة هم رأس مال مدخر للأيام السوداء وليسوا ربحاً عاجلاً .ولقد أصبحت العلاقات الأخوية في عصرنا هذا جافة وهشة وقد يخاصم الأخ أخاه من أجل كلمة قالها فيهجره ولا يكلمه وقد يثير الشيطان بينهم العدواة ويزرع البغضاء فلا يسأل بعضهم بعضاً وكأنهم أغراب وليسوا إخوة ، ونحن مسلمون ونقرأ في كتاب الله ولكننا لا نعمل بمقتضاه ولا نتخذ منه العبر للأسف ، فكم من أخٍ أدخل أخوه السجن وكم من أخٍ ظلم إخوته وحرمهم من ميراث أبيهم والمحاكم تغّص بالملفات والتنازع بين الإخوة .
لقد كان الإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام وأخيه الإمام الحسين عليه السلام مثالاً يُحتذى في التنافس وبذل المحبة بين الإخوة لأنهما ترعرعا في مدرسة الحبّ المحمدية ، وكان الناس يسألون الإمام الحسن وهو الأكبر سناً من الحسين فيقولون : أيهما أعلم أنت أم الحسين ؟ فيرد عليهم : أخي الحسين أعلم وأفضل مني ، ثم يسألون الحسين نفس السؤال فيقول : أخي الحسن أعلم مني وأفضل مني ... تنافس عجيب في المحبة بينهما وتفاضل متبادل وهذه الخصال هي من أركان الإيمان بالله لأنَّ الله تعالى تعرض لهذا في سورة يوسف فقال : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) الألفة والمودة والمحبة بين الإخوة دليل على الإيمان والإيمان له ثمن وله ابتلاء وابتلاء سيدنا يوسف بإخوته خير دليل على ذلك .
ليتنا نتخذ القرآن الكريم : ( إماماً مبيناً ) كما وصفه الحق وهو مرجعنا وإمامنا نتعلم منه ونعرف بل ونغرف من فضائله وأسراره فهو البحر الزاخر والمحيط الهادر لا تنضب موارده ولا تنتهي عجائبه .....