ومضات في الفهم والحكمة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض دعائه: " اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين " فقال له أنس بن مالك رضي الله عنه: يا رسول الله، إنك لتُكثر من هذا الدعاء قال: " يا أنس، إنَّ رحمة الله لا تفارقهم طرفة عين "
وخُيِّر عليه الصلاة والسلام أن يكون له مثل جبل أُحُدٍ ذهبًا، فقال: «لا يا ربِّ، أجوع يومًا فأدعوك، وأشبع يومًا فأحمَدُك " ...
وأردت به تفسيرَ شيء من حكمة الله في البعض منا ممن اعتاد محاكاة نفسه بالشطارة وهي اللؤم بالحقيقة وأصبح الظن بالسوء والكبر والغرور والكذب والمخادعة سجية من سجايا القلوب ، نذهب للصلاة وقد نتوضأ ونطهر ثيابنا ونضع العطر ، وننسى طهارة القلوب ، نخرج إلى المسجد بغرائز أسوائنا ونحن نحمل نعمة ربنا ورحمته وكأننا طاوويس تزهو بألون ريشها ونسي أن قدميه أبشع من قدمي النعامة .
كانت في المجتمعات السالفة يكون الخصام بين فرد وفرد أو بين جماعة وأخرى فارتقينا بسلم الحضارة إلى أن أصبح الخصام بين الضمائر فأصبح النزاع بين خُلق وخُلق حتى تفشت الأمراض النفسية والخوف الذي تحوّل من الخوف من الله إلى الخوف من الناس والخوف من الفقر الذي يُضعف الإيمان في النفوس ويعدمه ثقته برزق ربه .
جاءت هذه الكارثة كورونا لكي يصحى الناس من غفلتهم إلى حقيقة تركيب الكون واعتبار سُنن الأقدار في إدارته من الفايروس الذي لايُرى إلى أعظم مخلوق فيه ، هذه الكارثة جاءت لتصحيح معاني الغنى الحقيقية في الأنفس والعقول وهذه لن نجدها في الشركات المساهمة ولا في بوليصات التأمين على الحياة ولافي حساب الادخار .
إنَّ بحار الأرض مجتمعة لاتملأ ملعقة طعام في ملك الله فما بالنا حريصون على جمعها وجاءنا اليوم ابتلاء ورسالة مفادها أنَّ الدنيا ذاهبة بكل مافيها ولايبقى لنا منها إلا فضائل أعمالنا ، ولقد أصبح الموت قريباً من الأنفس ويكاد المسرفون على أنفسهم الخائفون منه أن يشمّوا رائحته .
والإنسان مخلوق من شيئين من تراب ومن روح فإن مات أخذت الأرض نصيبها المفروض منه ورجعت الروح إلى بارئها بما تحمل من أعمال صالحة أو أوزار موبقة .
وجاءت هذه الكارثة العالمية تحمل رسالة للبشرية بأن الله تعالى يريد أن نخلق لأنفسنا معنى من السمع والبصر ليس في أذن ولا عين، وأن نزيد في مجموعة أعصابنا الواهنة عصبًا عقليًّا يراه ويسمعه ويدركه ويؤمن به، فالإيمان قوة جبَّارة تحتاج إلى اجتماع كل قوى النفس لكي تتأثر .
ولن تتم هذه النعمة إلا إذا رُزِقَ الإنسان مع الغنى أخلاقًا تكفيه شرَّ الغنى، ومن أجل هذا كان من الأمور الطبيعية أن تجد العقل في إنفاق المال أشدَّ ارتباكًا منه في جمع المال .
اللهم أنت القويّ ونحن الضعفاء ، خلقتنا عبيداً على قدرك حتى ظنّ المغرور والمتكبر بأنه إله يتحكم في أقوات خلقك .
إنّ الله لايُنزل مصيبة على أهل الأرض عموماً إلا بماكسبت أيديهم لقد أصبح الحقّ كله إنسانياً نقول لبعضنا هذا لك وهذا لي وفصلنا أنفسنا من السماء والمحاذير الإلهية وقطعنا روابط صلة الرحم التي كانت تربطنا بالسماء حتى الأخ أصبح يهجر أخاه أو يشتمه أو يُؤذيه إن استطاع وهكذا أصبحت نفوسنا مثل الخرق البالية تهترئ شيئاً فشيئاً ...
فلا بُدَّ من صلةٍ معنوية بين جميع الناس على ما يكونُ بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها، فإنهما لا بد مفترقان افتراقَ الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة؛ فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ إنها اتباع شريعة الحق التي تناسيناها وبعُدت المسافة بيننا وبينها وسلبت منا الرحمة وكمال العقل وفضيلة العدل ... مَن الذي وُلِدَ وفي يده ملعقة من الذهب؟ ومن الذي مات وفي يده سندات مالية حصيلة ادخاره وحرصه يأخذها معه إلى الآخرة؟ لقد تاه الهدف منّا وجميعنا نعلم بأننا من الله وسوف نعود إليه ، وأما خلافنا فهو مابينهما ، بيوتنا ومشاريعنا وشركاتنا ومحلات تجارتنا هنا نختلف ونتنافس ويأكل القوي فينا الضعيف حيث يلتقي الإنسان بالإنسان ينسى معايير السماء وقوانين الشرع وبدل أن يكون اللقاء منفعة متبادلة تكون منفعفة لطرف ومضّرة لآخر وأصبحت الصفة الحيوانية شطارة من يحتال على الآخر .
كثر في زماننا الخبث وأصبحت تقوى القلوب فعل ماض وناقص أيضاً وخاصة في المعاملات المالية إلا من رحم ربي ، وهذا الوصف ليس تجنّي مني بل هو حقيقة ، إنها ساعة التفتيش في النفس بحثاً بين خباياها عن الفايروسات القاتلة التي لا نراها من كبر وغرور وطمع وحرص وكذب وتزوير على بعضنا ونحن مسلمون .
ومن طبيعة حياتنا أن يقوم الأحياء بدفن الأموات ونودعهم القبر الذي هو باب الآخرة الحقيقي ، فلا ضير أن نشيّع من مات ضميره وقلبه إلى أبواب الحقّ ، آه ثمّ آه عليك ياكورونا تقتلين الناس دون تمييز بألوانهم ولا أعراقهم ولا أجناسهم ولاغنيهم ولافقيرهم تجرحين المقضي عليهم بسكين القدر وتعطين عسل الحكمة ولكن بعد لسع شديد الضراوة .
لقد أسرفنا على أنفسنا وجاءت كورونا لتقويم اعوجاج هذه الأنفس ، فما زلنا نشتكي من الرخاوة وكأننا أجساد من عجين فكم من فلان له جاهه العريض ولكن قلبه مريض وجاءته كورونا تسقط ذلك الجاه العريض وكم من فلان جعله الكِبَر ينسى من أين جاء وإلى أين سيذهب ، وكم من فلان كان شيطانه هو عين إنسانه فقبحه الله على طول لسانه وقبحه وفحشه في حديثه وقلة إحسانه فيما خوله الله في ماله .
إنّ الكورونا هي بعض أعمال الله في خلقه كالراعي يهش بعصاه على غنمه إذا تفرقت خوفاً على شاردتها من الذئب
جاءت كورونا لتخرجنا من وحول الوهم إلى حدائق الفهم .......
10 comments
10 pings
Skip to comment form ↓
خيرية العسلي
12/04/2020 at 1:53 م[3] Link to this comment
تسلم يمناك..
اللهم ردنا إليك ردا جميلا…
والله يزيح هذه الغمة عاجلا غير اجل لا فاقدين ولا مفقودين…
سناء محمود
12/04/2020 at 2:39 م[3] Link to this comment
كلام في الصميم سلمت يمناك .. ندعو الله أن يزيح الغمة ونرد إليه ردا جميلا .
د.سمير رمزي عطيه
12/04/2020 at 3:50 م[3] Link to this comment
الاخت الغاليه الأستاذه البتول
سعدت بالتواصل و مقالك و معكي حق كورولا أفرزت دروس هامه كنا في غفله منها.
تحياتي
نور هاشم
13/04/2020 at 12:45 م[3] Link to this comment
سلمت يمناك.اللهم جملنا باحسن الاخلاق والاعمال.واغفرلنا ذنوبنا واسرافنا .وسلمنا من الوباء والبلاء وسيء الاسقام .ويبلغنا رمضان وقد رفع الوباء والامراص انه سبحانه لطيف بعباده
ام عبدالله
14/04/2020 at 9:43 ص[3] Link to this comment
كلام من ذهب
فهل من متعض
خالد
14/04/2020 at 10:59 ص[3] Link to this comment
تسلم يمينك
كلام من ذهب يا (ملكة الحرف)
لكل مبدع إنجاز ولكل شكر قصيدة ولكل مقام مقال ولكل نجاح شكر وتقدير ، ف شكراً من القلب لهذا المقال الرائع أستاذتي العزيزه البتول .
شفيقة خليل
14/04/2020 at 5:16 م[3] Link to this comment
صديقة العمر ابدعتي بخاطرتك الشاملة الكاملة الصادقة
فعلاً كاننا في نوم واستيقظنا على اصوات داخلنا لنفوق
فهنئاً لمن فهم الدرس بعد كورونا
حصه الصقير
14/04/2020 at 10:58 م[3] Link to this comment
عندما قرأت ؛؛(قصاصااتك الذهبيه أشعر كني أحلق مع سمفونية الثرااااء اللغوي وتحدثني عما حصل ويحصل هذه الأيام وكأنك ترسمين لوحه خرااافيه للحياه المعاصره وما فيها من أخبااار لتوقظنا بكرووونا ٢٠٢٠ لنرى الحاضر بحكمه وحذر ولقد وصفت الحااال وأجزلت””؛
ويسعدني بقدوم رمضان المبارك ان اهنيئك واااأمه الإسلاميه وراجيةً من المولى ؛(أن يعم علينا ونحن بأسعد حااال آمين
سيف ال تركي الحسيني
15/04/2020 at 2:41 ص[3] Link to this comment
“خلقتنا عبيداً على قدرك حتى ظنّ المغرور والمتكبر بأنه إله يتحكم في أقوات خلقك”
“إنّ الله لايُنزل مصيبة على أهل الأرض عموماً إلا بماكسبت أيديهم”
————————–
بارك الله جهودكم، وزادكم الله علما ونفع بكم.
تحياتي..
ناديه أبوزناده
18/04/2020 at 12:40 ص[3] Link to this comment
أختي الغاليه بتول أحب أهنيكِ حقيقه ماشاءالله لاقوة إلا بالله كلام رائع أتمنى كل مين يقرأه منما رأيت فيه من إسترجاع محاسبة النفس وهذا تذكير منك جزاكِ الله خير أسأل الله لكِ التوفيق والسعاده ( لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )