أشعرني بأن غرفته صفراء اللون، رغم وجود أضواء بيضاء ناصعة.
كان يرتدي الزي الأزرق مفتوح الظهر، وينظر حسرة لذراعيه، التي نفرت عروقها الخضراء، ويعود لترتيب الشرشف الأبيض فوق نصف جسده السفلي، ثم يرمي نحوي نظرة حسرة:
عرفت اليوم معاني ذلك المثل، الذي يتكلم عن تاج الصحة، على رؤوس من يحضرون لزيارتي، فعلا أنا أصبحت أراه واضحا على رؤوسكم.
يصمت قليلا، ثم يمسح أنفه بمنديل ورقي: لا تخش شيئا، فأنا لا أحسد، ولكني أحاول تفهم عمق ما أنا فيه.
ينظر لذراعه الدقيق: لقد كنت أمتلك قوة تهد الجبال، وكنت لا أطيق الجلوس ساكنا لفترة طويلة، فأقوم بتفريغ الشحنات العنيفة، التي تهز بدني بطرق عدة، ولكني الآن أشعر بعكس ذلك، ولو استسلمت لحزني، ويأسي، لرقدت، طوال الأربعة وعشرون ساعة، ولكني أخشى أن أنام فلا أعود ثانية.
وتخيم علينا وهلة صمت يتحدث بعدها، وكأنه يكلم نفسه:
الدواء، لم أكن أطيق طعمه المر طوال عمري، وكنت أقاوم الوعكات ونزلات البرد، بدون أن أضطر لتجرع شراب الكحة، والقطرات، والحبوب، التي أشعر بأنها مسامير صدأ تدق في حنكي، وتشعرني بالقرف، ولكني الآن مستسلم لكل ما يحدث حولي، يدخل عليَّ الكثير بملابسهم البيضاء والخضراء، يفعلون بجسدي ما يرون، فهذا يرفع ويخفض أطرافي، وهذا يطلب مني فتح فمي، وهذا الوقوف، وأنا أشعر بالهزال، والوهن، ويطوفون بي فوق كراسي متحركة، بين أقسام المستشفى المختلفة، يقيسون وزني، وضغطي، وينخزون جلدي، وأنفي، ويعرضون جسدي للاختبارات والأشعة، ويحقنون الأدوية في عروقي، التي لم أعد أشعر بأنها مني، فكأنها قفزت لجلدي من عدم.
وأحاول مواساته دون أن ألمسه، حسب تعليمات الممرضة المسؤولة، فيبتسم بسمة شاحبة: أشعر بما تريد قوله، وأنا محروم بأمر السقم، من الإمساك، حتى بأطفالي، وأهلي، خشية تعرضهم للعدوى، وعلى مقاومتي المتهالكة من الاختراق بجراثيم جديدة، تزيد من سرعة مرضي ومضاعفاته.
يغطي وجهه بمنديل، وهو يقاوم عطسة ألمت به:
حتى العطسة، أجدها اليوم فعل مرهق مرير، تكاد تقتلع أضلاعي من عمودي الفقري، وكل ما في عمري تبدل، حتى ذهابي لدورة المياه، غدى معضلة عظمى، فإما أن أشغل الجميع معي، أو أن أضع نفسي في موقف محرج، فلا أدري حتى متى يستمر هذا الهوان، والتعب.
يمسك بجانبه الأيسر، ويغمض عينيه لوهلة:
الألم الشديد يباغتني بقسوة، والصبر ليس ممكنا، والعلاج لم يعد ينفع، فكأنه يسكب في وسط حفرة جافة في الصحراء، لا تنعم بالرطوبة، ولا ينبت فيها زرع.
ثم، يحدجني بغضب:
لماذا لا تغادر لتستمتع بصحتك، أنا قادر على مواجهة المرض وحدي، لا أحتاج شفقة من أحد، وكلامكم، مهما حاولتم اظهاره مخلصا صافيا صادقا، يظهر لي معيوبا، بجلوسكم حولي عدة دقائق، ثم تغادرون وأنتم تلوون أفواهكم، وتهزون رؤوسكم، وتتحسرون على ما يحدث لي، وأنا لم أتعود الشفقة من أحد، أنا نعمت بما كان لي من صحة وقوة في زمن الشباب، وأنا قانع بما يحدث اليوم من عكس ذلك، فهذا جزء من الحياة، التي لا تدوم على حال.
لماذا نظل نعتقد أن الصحة دائمة، وأن المرض ليس لنا، وأنه فقط للغير، أنا واقعي، وأعرف أن الحياة دوما ناقصة، إن أعطت باليمين، أخذت بالشمال.
أشعر بالخجل من كلماته، وأفكر بالمغادرة قبل أن يزيد من تفجر غضبه نحوي، فيضحك ضحكة كصرخة استغاثة، وأتخيل رأسه مجرد عظام جمجمة مرعبة: طبعا، طبعا، تريد أن تهرب قرفا، لتحكي للناس عما ألم بي، وتشرح لهم مدى تعاطفك، ومشاعرك، وأنك ترأف بحالي، ولكن ذلك كله يصب في فائدتك أنت، زياراتكم لا تفيدني مطلقا، وأنا لا أنتظر منكم أي تعاطف كاذب، فقط عندما يسألك الآخرون عني، قل لهم إني بألف خير، وعافية، وأني جاهز، لما سيحدث، مستبصر بالقادم بيقين، لا أنكره، ولا أقاومه.
أقوم متجها للباب بغضب، فيزيد: هل رأيت مصداقية كلامي، أنتم مجرد ظاهرة صوتية، تضر ولا تنفع!