بعد أن قمنا بجولة في مزرعته الضخمة، بأقسامها المتنوعة من مزارع نخيل، وفواكه، وبيوت محمية للخضروات، وحضائر أغنام وأبقار، ومزرعة دجاج، وبرك لتربية الأسماك، وكان ساعتها يعتقد أنني أنوي على شراء المزرعة، فأعطاني معلومات مشجعة، متفائلة، وشرح لي عن البركة في الزراعة، والتي تحول كل نتاج إلى فلوس لا عد ولا حصر لها.
وبعد أن شرحت له حالي، وأني فقط أرغب في الكتابة عن عالم الزراعة، تحسر، وتمتم بكلمات مبهمة، ونزع غترته، ورماها على الأرض، وطلب من أحد العمال أن يمد لنا بساط تحت النخلة، وأن يحضر لنا الشاي، وجلس ومد ساقيه على الأرض، وهو يعاود الضحك:
هداك الله، لقد كنت أظنك مشتري، مفضخ عيون، أعمى قلب، فأتخلص من هذه المزرعة، التي خَسِرت فيها الكثير، وأخشى أن تكون نهايتها كارثية.
ويخرج من جيبه كومة أوراق صغيرة:
فواتير، فواتير، لا تنتهي، ولم نعد نقدر على المصروفات، ونحن نشتري كل شيء، حتى الماء.
ويضحك:
الله يسقي، كنا في الزمان الماضي نتدلل على الحكومة، وهي تعطينا القروض الطائلة، ولا تشدد على السداد، وتشتري قمحنا للصوامع بأسعار مرتفعة، واليوم لم نعد نزرع، إلا الخضروات الوقتية، وبيني وبينك، ذبحناها بالمبيدات، وهذا يجعلنا نشعر بالذنب، ولكنا نضطر لذلك، فالعمالة عندنا سيئة التدريب، وقليلة العدد، تضطرنا للاستعانة بالمبيدات، حتى لا تمرض الخضار.
فأنظر له نظرة عجب، فيزيد:
نعم نُكثر من المبيدات، لدرجة أننا لو نقيس كميتها في الخضار، وفي التمر، وفي الفاكهة بشكل قانوني، لكان مصيرها الاتلاف، لعدم الصلاحية للاستهلاك الإنساني، و(يخرج لسانه)، ولا الحيواني.
وقبل أن أسأل:
العمالة رديئة، وهي تشاركني في المنتوج، وأنا لا أفهم في الكيماويات، وهم يبغون يعجلون على الثمر، ما همهم إلا البيع.
ثم بعد فترة صمت:
وأزيدك من الشعر بيت، الهرمونات نستخدمها للدجاج، والسمك، لأنها تعجل في نضجها، والله يعين من يأكل من نتاجنا.
وينظر لي ببسمة:
أعرف إنك تنتقدني، ولكن لم يعد يهمني، العملية كلها خسائر، وجلب العمالة رسوم ومصاريف، والأجواء قاتلة، والزراعة تحتاج معدات حديثة، وعمالة مدربة متخصصة، ومشرفين ومهندسين، وصدقني أننا لا نستطيع توفير كل ذلك.
وينظر لجهة حضيرة الغنم:
حتى التبن أصبح غاليا علينا، والماء شح، والخروف يكلفنا أكثر من ثمن بيعه، والطبيب البيطري، والنظافة، كلها أمور أرهقتنا، والوزارة، مرات تتجاوب معنا، ومرات تكلفنا بأكثر من طاقتنا.
وينظر لأحد الأطفال وهو يلعب في التراب:
هذا حفيدي، وأنا لا أجعله يذوق أي شيء من نتاج المزرعة، نحن نشتري من انتاج المزارع الضخمة، والتي تستطيع انتاج منتوج خالي من الهرمونات، ومن المبيدات، التي يسرف في استخدامها صغار المزارعين.
ويمر من حولنا طير، فيحذف ناحيته بحصى صغيرة:
تصدق، حتى الطير، ما نشوفه بكثرة عندنا، ولكني مقدم على الحكومة، أريد أن أحول المزرعة لمخطط سكني. هل تعلم لو وافقوا لي، سوف أبيع المتر بحوالي عشرة ريال، رغم أن الخدمات ما يمكن توصلها ولا بعد ثلاثين سنة.
وقبل أن أستفسر، يبتسم لي:
لا تخاف، المهابيل كثير، يحوطونها بشبك، ويشترون مولد كهرب، ويحطون فيها حارس، وتسير مثل المخيمات، بس الفرق إنها بصكوك، إليكترونية مضمونة، يعني بعد عمر طويل، ما يجي أحد يدعي ملكية الأرض، ويطردهم.
ويقوم وهو ينظر لزوايا المزرعة:
أنا عندي مساحات طيبة، عذروبها بعدها عن العمار، ولكن ما يدريك يجي يوم، ونلاقي لوحة مشروع حكومي، قريب منها، وساعتها، والله ما أبيع المتر، إلا بزود عن الألف.
وينادي على الحارس:
اجمع للدكتور كرتون، هدية من الخضروات والتمر، والسمك.
ثم ينظر لوجهي، ويفهم أني ممتعض، فيضحك عاليا:
أنا أدري إني قلت لك كل أسراري، بس قلت يمكن لك خاطر، وما ودي تقول عني بخيل!