خلق الله تعالى الإنسان وجعل حركته مقسمة إلى قسمين : الأولى ( حركة رأسيّة ) وهي علاقة المخلوق بالخالق لتلبيّة متطلبات المخلوق والبقاء متصلاً مع الخالق ، والثانية هي ( حركة أفقية ) وهي حياته المادية على الأرض وعلاقته مع بقية أفراد المجتمع وهي الحركة التي تلبي له متطلبات جسده المادي .
ولابدَّ هنا للإنسان أن يعرف كيف يُقيم التوازن بين حياته الرأسية وحياته الأفقية ومن يجهل هذا التوازن فيميل بشغف إلى الانغماس في الحياة الأفقية فسوف ينسى علاقته الرأسية ويبتعد عنها ويظنُّ بأنه ليس محتاجاً لها ، فسوف يدخل في ظلمة الروح الخطيرة .
وقال علماء النفس المتخصصين بالقسم الروحاني الإنساني : بأنَّ هناك منطقة في الروح تُسمى ( الخواء الروحي ) أو الفراغ الروحي ، وهذا الفراغ لا يملأه إلا الاتصال بالله تعالى عن طريق الذّكر والمناجاة والدعاء وخلافه وهي علاقة الإنسان (الرأسية ) بخالقه .
وهذا الاتصال الرأسي بين العبد وخالقه لكي يعرف المخلوق عظمة الخالق ويُصبح المخلوق على يقين بأنه ضعيف لا يملك حولاً ولا قوة إلا ما شاء خالقه أن يعطيه أو يرزقه عندما يقرأ كلام الحق وهو يقول : (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ) فيتواضع لله مهما كان غنياً ثريّاً أو عالماً جهبذاً أو ذا جاه عريض ، وأما الجاهل بمعرفة نفسه الذي انغمس في حركة الحياة الأفقية بالكليّة دون الالتفات للحركة الرأسيّة فإنه عندما تسأله : من أنتَ ؟ فيجيب بفخر وينفخ صدره ويقول : أنا فلان بن فلان الثري ألا تعرفني ؟ أو أنا العالم الفلاني المشهور أو صاحب الجاه العريض ، لأنه يجهل الآية السابقة بأنه لم يكن شيئاً مذكوراً أي عدم أوجده الله من العدم فاعتقد عندما استحوذ على المال أو العلم أو الجاه بأنه شيء وذا أهمية ونسي بأنه عدم فيسلبه الله تعالى ما أعطاه إياه ، ثم نأتي إلى ذات الشخص ونسأله من أنت بعد أن فقد كلَّ شيء فنراه تائهاً شارداً ضائعاً مُغيّباً عن الواقع وهذا ماسماه علماء النفس ( ظلمة الروح ) فيدخل في كهف ظلمة الروح من هول الصدمة لأنه فقد ما كان يظنُّ بأنه هو ونسأله : من أنت ؟ وإن استطاع الرد فسيقول : أنا لا شيء لأنه يظن بأنَّ ماوهبه الله هو ملكه وهو الذي جلبه بجهده وعرقه وتغافل عن مشيئة الحق في وجوده ، فأرجعه الله تعالى إلى العدم لكي يخلع عن نفسه ثوب العُجب والتكبر والخيلاء ويعرف نفسه وتلك المصيبة هي عين الرحمة للعبد لكي لا يلقى الله بأمراضه النفسية ولعله يهتدي إلى نور الله .
ولكنَّ الله تعالى بمنّه وكرمه ولطفه ورحمته وعدله ، جعل لنا دواء يتجدد كلَّ سنة موسماً يتجدد لكي نملأ ذلك الفراغ الروحي وننشط العلاقة الرأسية بيننا وبين الله تعالى فشرع لنا الصيام ، والصيام هو توقف شبه تام عن حركة الجسد ومتطلباته ( الحركة الأفقية ) من طعام وشراب وخلافه وأيضاً توقف الرفث والفسوق والجدال فيمضي يومه بسلام ثمَّ يأتيه الليل فيملأ ليله بالصلاة والذكر وقراءة القرآن حتى يملأ ذلك الفراغ الروحي لديه بنور الله ولكلِّ مجتهدٍ نصيب ، ويتبيّن نتيجة ذلك بعد شهر رمضان هل امتلأت روحه أم لا ؟ فمن قلَّ جداله وترك المراء والكذب وتخلق بفضائل الأخلاق وتغيّر فقد كان صومه حقيقياً ومقبولاً ، ومن عاد إلى ما كان عليه قبل رمضان ورجعت حليمة إلى عادتها القديمة فليعلم بأنه قد قام بتجويع نفسه وتسبب بعطشها عبثاً ، فقد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " . إذا الحكمة من الصيام ليس الجوع والعطش إنما شفاء الأنفس من الأمراض المهلكة ومنها قول الزور والعمل به والزور الكذب وتغيير الحقائق والكذب رأس كلِّ خطيئة ، وهو وسيلة لبلوغ الروح المعرفة ونفي الجهل عنها لأنَّ الجاهل بمعرفة نفسه هو من يرتكب المعاصي .
الكاتبه 🖋️ البتول جمال التركي