كتب أ.د.محمد الشنطي قراءة نقدية راقية عن ديوان ( التباس) الصادر عن نادي الطائف الأدبي ودار الانتشار العربي ببيروت، فأجزل الكاتب في الوصف وأبدع في قراءته النقدية حتى حلقنا معه في سماء الشعر وحروفه، نستمتع بإبداعات شاعرنا الكبير (حسن الزهراني) وقد أجاد الشنطي في اختيار الشخصية وانتقاء الديوان .
مع نافذة الشنطي وقراءة ممتعة
_تمثّلات الشجن، وجماليات التناص، والتراسل بين القناع والرمز._
يضم الديوان ما يقرب من أربعين نصّاً شعرياً، يشير عنوانه (التباس) إلى القلق والحيرة، وذلك من أبجديات الحالة الشعرية التي تقوم على التخوم الفاصلة بين وضوح الرؤيا وغموضها، ومدخل إلى شعريّة التعبير بما تتيحه من تقنيات للإحاطة بها، وهو عنوان إحدى قصائده، وقد رأيت أن أنطلق من نماذج ثلاثة في قراءتي الاستكشافية للديوان بما انطوى عليه من إشراقات وتجليات و رؤى، بادئاً بوقفة يسيرة متمهلة عند النص الذي يهدي فيه الشاعر الديوان للشعر، لعلها تميط اللثام عن موقفه ومفهومه ومبادئه؛ إذ يرى أن الشعر تهذيب وتطهير ومحبة ولحن وعطر وحقيقة وسحر وشك وإيمان:
إلى الشعر حيث الشعر هذّب مهجتي وزكّى فؤادي بالمحبة والطهر
وموسق أنفاسي تغاريد مهجتي ونبض حروفي من شفافية العطر
فأحاط بعالم الشعر منذ أفلاطون ونظرية المحاكاة لديه، مروراً بالتخييل لدى فلاسفة المسلمين، وبنظرية التعبير لدى الرومانسيين وعصر التنوير، وأحاط بمجمل المفاهيم الخاصة بالشعر في مراحله المتعددة.
وقد تبدّت هذه الرؤية بقصيدته الأولى بعد الإهداء (آيات من ضياء) فكان التعبير عن اللوعة و الحزن و المآسي، مشيرا إلى الحزن بوصفه باعثاً من بواعث الشعر، ولكنّه لم يغفل عن الوجه الآخر؛ فهو الشمس، والخيمة، والضياء، والنغم، ورسول المحبة، تلك فضاءات الشعر التي يحلّق فيها الشاعر بوجدانه وخياله:
غيمة تبذر الحياة وتسمو بشموخ إلى أعالي الفضاء
في قصيدته الأولى من الديوان (يا ونتي يا صرم حالي) منطلق لنهج الشاعر في الديوان، فالونة من الأنين، وهي صوت التوجّع والألم، وللساقية صوت يشبه أنين المحزونين، و(صرم) تعبير عن الحالة الحزينة، تعبير شعبيّ عن وقع المأساة، ولعل الإيحاء الصوتي للنون المشدّدة، والمدّ، والتضعيف، منذ العنوان، يجسّد عمق الشجن، فضلاً عن التكرار والتوسل في خطاب الجمع في أسلوب الأمر (ردّوا). هذه التضعيفات، والمدات، والهاءات (الآهات) المتتالية، والمفارقة بين االقلق الفسيح والوجع الكسيح (السعة والضيق والحركة والسكون ) صرخة موجوع ممتدة إلى العمق، والحركة الموّارة في مساحاتها الحيوية الضيقة (المعربد في دمي) هذه الصور المتتابعة في المقطع الأول من القصيدة معادل موضوعي للّحظة الشعريّة المحتشدة بحسرة الفقد، والمزاوجة بين اسم المعنى (الاحتمال) والمساحة الحسّية من (أقصى إلى أقصى) ملمح من ملامح الشعرية افي انزياحاتها المدهشة التي تفجّر مكنونات الوجدان الجريح.
ويأتي الالتفات في المقطع الثاني من خطاب الجمع إلى مساءلة (اليتم) اللفظة المعنوية الدالة على الفقد بمفهومه الواسع، وخطاب غير العاقل في البلاغة العربية ينصرف إلى التمني مستحيل التحقّق، و هذا الطارئ الذي يتمثل في فقد الأم عصيّ على الاستجابة، والتوسّلات التي تتضامّ فيها الأفعال (يؤثّث ، يسقي ، يقرأ و ينثر ) مع تعدد الفواعل المتكاثرة المتنوّعة في مجازات تتجاور فيها معاني النازلة الجسيمة :
“يؤثّث جهوة الأحزان/ يسقي لوز سطوته بدمعي/ يقرأ التوراة والإنجيل/ والقرآن/ في شباك حرماني/ وينثرني خريفا من خرافات الجنى القاني على قمم الجبال”
وفي المقطع الثالث تنداح الصورة لتشمل البلابل، والألحان، ومكوّنات الزمان والمكان، وتشمل أبعادها الكونيّة كلّها في إضمامة واحدة يتوحّد فيها الكون والكائنات، ويفني في دروبها المحسوسات والمجردات، وتمتد عبر الصحاري والواحات في موجاتها المتعاقبة من (عتام إلى النفود والربع الخالي) مستكنّة في فضائها الكونيّ الذي يحتضنها مكاناً وزماناً، وفي مقطع تالٍ تقترب الصورة من تخوم الأسطورة:
“هو صوتها الذي عبر المدار/ ورنّم الأفلاك بالشجن المصفّى/ في رموش الريح
وارتجزت به مهج التلال”
هذا الحراك المشهدي تلبّست به الروح الفقيدة لوناً من ألوان الأسطرة للصورة مثّلت ظاهرة من ظواهر التحديث في الشعر العربي المعاصر. كون أسطوريّ تسكنه الروح فتُؤنْسِنُه ووتراسل فيه الجوارح البشرية مع الظواهر الكونية في توحّد صوفيٍّ مفعم. وتمتد أمداء هذا النهج الجمالي ليشمل الشاعر وشعره في ترداد حزين في عود على بدء و ترجيع شجيٍ مكلوم .
نغم حزين يخترق جسد القصيدة يتردّد في إيقاعه الشجيّ المستلّ من أعماق الحزن، يتواصل فيه الخطاب مع الغياب عبر التداعيات التي تنفلت من عقال المعاناة لتسري في شرايين الكلام، في مزيج من معطيات الزمن، وأشجان اللحظة، وحرقة الألم: بُعد وتواصل وامتداد وزوال وحرقة، معجم تتلاطم فيه أمواج الأسى؛ فتتجاوب مع صرخة الفراق (ياونّتي) في انزياحات تتقارب فيها الدلالة وتتباعد بينها شُقة المعاني، وحوار بين الحضور والغياب بين الفقيدة والفاقد، خطاب يتراسل فيه الموت مع الحياة في شعريّة تتجاهل كل درجات التكثيف والتشتيت في صياغة مدهشة، يندمج الصوت والدلالة والإيقاع والصورة؛ فيتفلّت هذا الحشد لينسَرِب في دراما الموقف: صرخة الفقد التي تتعالق مع نبض الوجود على لسان الفقيدة منبعثةً من لوعة الغياب، ثم ما يتلوها من ترجيع حزين:
“قل لكل الميتين على أديم الأرض/ قوموا من سبات الوهم/ ردوا للحياة الموت
فالموت الحياة الآن”
تجاوب الصدى مع صوت الفقد، وبدت القصيدة متحدّرة كنهر: ترجيع حزين واستغراق في التواصل الحميم وتجاهل للغياب: خطاب شعريّ يتجاوب فيه الصدى مع الصوت، وتتقاطع فيه الأمداء والأزمان ما بين حضور في الذاكرة والوجدان والأماكن والفضاءات، وما انثال من عبق الحضور؛ ليملأ فجوة الغياب، وحشد من الخطابات التي يستحضرها الشاعر، ينسجها المخيال على نول اللحظة الحزينة، واستثمار مدهش لمعجم تتقاطع فيه الدلالات، وانفتاح بلا حدود على تخوم الشجن، يستحضره الوعي الذي يكاد يغرق في غياهبه في إيقاع متحدّر عبر الانسياق مع تفعيلة مِطواعة متحرّرة من حدود البحر، منطلقة في فضاء الرؤيا.
في قصيدته (أبجدة) خلاصة للرؤى والتشكيل، صياغة تُؤَبجد لغة القصيدة فتجمعها وتحيط بسحرها من أطرافه، مزيج مركب تتفاعل فيه كيمياء الشعر مع ظواهر الكون بمائه وترابه وطبيعته البكر مع نبض الروح التي تشتعل فيه الذات الشاعرة بأحلامها وأوهامها وأحزانها؛ فتحيط بها من جميع أقطارها منصهرة في أتون التجربة ومحارقها؛ فنحن أمام سديم تشابكت فيه حركة الأفلاك مع حراك لا يكفّ عن التوهج مع الانتقالات السريعة في إيقاعاتها الكونية الذاتية، فتتعالق فيها عناصر الصورة؛ لتحفر في مداها عمق الألم وانفطارات الفؤاد في هذا المعترك الكونيّ الصاخب، استحضار لعَبَق التاريخ، وسحر المعاني، وميكانزمات الكون، والكائنات في تتبيلة لغوية مجازية تستلّ صورها من احتراقات الذات واشتعالات الروح.
ويبدو الموت حاضراً في قصائد الديوان، يمور بلظى تجربة الفقد، مستغيثاً بديمة الشعر لإطفاء اللوعة، واستحضار ترياق الألم ومرهم النسيان. وهذه القصيدة فيما تحفل به من شبكة للعلائق بين عناصرها تستجمع حقول الدلالة في مفرداتها لتستكشف فيها تجليات الإبداع قرين الفقد و مفجّر اللوعة، من هنا كانت الأبجدة جماع الكلم الساحر، وأيقونة الشاعريّة، ويستثمرالشاعر إيقاع البحر البسيط في تحدّره وانسيابه ورويّ القاف في قلقها وألقها، وهو في الأصل من حروف الجهر أصابها (التهميس) كما يقول اللغويون، وهو شديد مفخّم، مخرجه من اللهاة أي مستلّ من عمق الحلق مُسْتَعلٍ منفتح، وهذه الخصائص في الروي منحته طاقة تعبيرية استجمعت فيها القلق واليقين على صعيد واحد في مفارقة شديدة الدلالة.
استخدم الشاعر كلمة أبْجد بمعنى جديد، ولعله يقصد اكتب؛ والدليل على ذلك (سفر النحيب) :
أبْجِد دموعك في سفر النحيب ومت مضرجا بضياء الشعر في حرق
فهو يوثّق المأساة ويعيد إنتاجها بمداد القلب وسفر العمر؛ وهذه القصيدة الفائزة بجائزة مميزة تستحق دراسة تحليلية مستقلة لا يتسع لها المقام في هذه المقالة.
أما القصيدة المحور (التباس) فقداستحضر فيها الشاعر قصة موسى (عليه السلام) واتخذ منه قناعا، وطرزها بمفردات قرآنية في تناصٍّ مباشر، واستدعاء غير مباشر، عبر تمثّل الموقف تلميحاً وترميزاً وتنمية للنص الأصلى، وترصيعا ومبالغة، ويبدو في هذه القصيدة لونان من ألوان التناص: الترصيع حيث العلامات اللفظية مفردات وتراكيب، والتمثّل والتمثيل عبر القناع الذي يستثمر في بعد موضوعي؛ فقد استوحى علامات سيميائية عبر قبسات من المعجم القرآني الخاص بقصة موسى (عليه السلام) في ثمانية مواضع من النص الذي لايزيد عدد أبياته عن سبعة؛ فقد أشار بقوله (آنست نارين ) حيث يشير إلى الضلال عن الطريق، وهنا يشير إلى اهتدائه بإبداع الشعر ثم (طوى ) و(النعلين)؛ حيث تلقى موسى عليه السلام في الوادي المقدس الذي ذكر في القرآن الكريم وكل الكتب السماوية الوصايا من رب العالمين، وهنا يأتي النفي والضلال عن الطريق حيث التبست عليه سبل الخلاص، ثم الطور حيث كلم الله تعالى موسى، فذكر الشاعر الطورين كناية عن التباس الأمر عليه، و(عصاي) حيث ضرب موسى بعصه البحر للنجاة من فرعون و لكن الشاعر – هنا – لم ينجح في الاختراق والسير على اليابسة، ولم يسعفه أخوه، كما فعل هارون، ثم خطابه للسامري، فقد تمثل تجربة موسى عليه السلام، ولكنه انتهى إلى غير ما قصد إليه.
إضاءة سريعة لبعض ما في هذا السفر من جماليات الإبداع.