لهذا العنوان قصص حدث معي فعلاً ، ففي بدايةً التسعينيات من القرن الماضي، جبت جامعات المملكة بحثاً عن مقعد ، التي لم أجد قبولاً فحتى في أسهل التخصصات هدفي الحصول على شهادة ، حنى لو تربية بدنية ، لأكون جامعي ، إلى ان وفقني الله بمنحة في جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية في (كلية الشريعة) ،
غير أني لم أفلح دراسياً ، ليس لقلة ديني ولا لعدم اجتهادي ، إنما لصعوبة المقررات الدراسية فيها .
ثم انتقلت ( بالتوجيه والنصيحة والإجبار ) لدراسة الاقتصاد في نفس الكلية .
وحينما أُسأل في أي قسم ؟ ا أقول : أدرس الاقتصاد !! كانوا يقولون لي ( اقتصاد!؟ تبغى تصير وزير أنت ووجهك ) .. هذا التخصص ( مو لك ) هذا لابناء التجار ولمن يريد أن يصبح وزيراً .
كانت أولى المقررات التي درستها مقرر ( الموارد ) وفيه درس عن الموارد التي تنضب والتي لا تنضب ، واذكر اني قدمت بحثاً فصلياً عن النفط ( الذهب الأسود ) وكيف أسهم اكتشافه ووفرته في تغيير المملكة والنقلة الكبيرة التي انعم الله على هذه البلاد بها .
عرفت أنه من (الموارد التي قد تنضب) ، كنت قلقاً من نضوبه ومدى وكان محل نقاش دوماً مع اساتذتنا ومدى انعكاس ذلك علينا ، خصوصًا وأنه (مطمع ) لكثير من الدول ، و (محسد) لكثير من أفرادها .
فعندما كنت اسافر خارج المملكة ، كان الأفراد في الدول الأخرى يعتقدون أننا في المملكة نشرب النفط من وفرته ، و أن لكل شخص ( بئر نفط ). كنت أقول ( اعوذ بالله من عيونكم ، اللهم احفظنا) .
في ذلك الوقت كانت الدولة تدرك ضرورة التقليل من الإعتماد على النفط ، لكن لم يكن هناك قرارات حاسمة وجريئة تجاه ذلك ، الى أن جاء شهر ابريل من عام ٢٠١٦م حين تم الإعلان صراحة وبجدية عن التغيير وخطة التحول ورؤية ٢٠٣٠م التي اعلنها سمو ولي العهد .
عندها أدركت كدارس للاقتصاد أهمية دراستي للاقتصاد ، مع أني لم أصبح ( وزيراً) حتى على نفسي .
هذه الدراسة التي اعطتني القدرة على قراءة الواقع والتخطيط للحاضر والتنبؤ بالمستقبل ، قرأت حينها مدى فائدة هذا القرار ،وأبعاده الانية والمستقبلية ، على حلينا والاجيال القادمة ، وماذا يعني تقليل الاعتماد على النفط ، وتأثيره على المملكة اقتصادياً واجتماعياً ، وتمنيت أن اكون اصغر سناً وعمراً حتى أشهد هذا التحول وأنعم بعوائده، ولم اكن بعيداً عن المستقبل الذي اعيش بعضه ، و أراه قريباً بكل العزم والحزم والاقدام ، فكتبت حينها مقالاً بعنوان ( رؤية ٢٠٣٠ يا تتغيّر يا تتغيّر ) أردت بعنوان هذا الموضوع أن الفت الانتباه إلى فترة لابد فيها من التغيير والاستعداد للتغيير وما يلزمه من عدة وعتاد ومواكبة ، والذي يبدأ من الفرد المُعَد و المستَعِد .
يبدو أن (زمان النفط ولّى) ، والإعتماد عليه نقد ذهب ، ونحن اليوم في عام ٢٠٢٣ ومانراه من تحول وتغيير، نعيش هذه العبارة دون أن نخشاها ، ونخشى عواقبها .
وبعيداً عن العاطفة ،وبلغة الأرقام والتقارير تتأكد هذه العبارة يوماً بعد يوم ، ارتفاع النشاط القطاع غير النفطي بحسب تقرير The ecnomsist أن المملكة في المركز الأول ، كما وصف تقرير ( فوربس ) أن اقتصاد المملكة الأكثر تطوراً خليجياً وقد فصل التقرير المجالات غير النفطية حيث افاد أن براءات الاختراع زادت..
فعلى سبيل المثال حصلت شركة ارامكو خلال ٧٧ عاماً على اكثر من ١٠٠ براءة اختراع من امريكا وحدها ، وفي عام ٢٠٢١ وحده حصلت على ٨٦٤ براءة اختراع وزاد هذا الرقم إلى ٩٦٣ براءة اختراع في عام ٢٠٢٢ م .
كما تقدمت المملكة ١٥ مركزاً الي الأمام في مؤشر الابتكار العالمي لعام ٢٠٢٢م وفق مؤشر منظمة الملكية الفكرية ،واحتلت المرتبة الثانية في التنافسية الرقمية ضمن مجموعة العشرين وفق مؤشر المركز الأوربي للتنافسية الرقمية . وغير ذلك من الشركات الناشئة ، كما حققت ارتفاعاً في قطاعات غير النفطية وصل إلى أعلى مستوياته في فبراير ٢٠٢٣ .
هذه الارقام والمؤشرات وغيرها من الاصلاحات ، تساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تقليل الاعتمادية على النفط ، و مدعاة للفخر ، وتفاؤل بالمستقبل ، سوف تحقق يوماً بعد يوم ما يعود على اقتصاديات المملكة ، وتحقق تغييراً ايجابياً وتأثيراً اجتماعياً ونمواً في سوق العمل ، يجعلها في مصاف الدول المتقدمة ، والأكثر نمواً بل والاكثر تأثيراً في العالم .
وهنا دور الفرد المسئول ،ودور المنظمة الفاعلة ،واهمية مواكبة هذا التطور المتسارع ، وضرورة قراءة الرؤية ويرامجها ، واهدافها ، ومبادراتها قراءة دقيقة ، وأهمية العمل بالتواز مع توجهات المملكة ، والسعي الدؤب بما يعود عليها بالنفع ، ويسهم بشكل أو بآخر في الناتج المحلي الاجمالي ، والوعي بالمشاركة ، والإحساس بالمسؤولية ، وأن الكل مسؤول .
دراسة الاقتصاد اكسبتني وعياً بأهميته ، واكسبتني ادراكاً في قراءة واقعه ، وقدرة على استنباط أحداثه ، وتخطيط عملياته ، وتميزاً في وضع استراتيجيات و(تكتيكات ) ، أقرب الي الواقع .
كما أن عملي وممارستي للتدريب والتطوير ، جعلني آكثر ادراكاً لأهمية المواكبة ، و حرصاً على توعية الشباب واشعارهم باهميتهم ، واهمية المساهمة في دفع عجلة التنمية ، الذي يبدأ بهم من ، وضرورة اكتشاف قدراتهم وتنمية مهاراتهم ، وتوظيف امكاناتهم توظيفاً امثلاً ، والتطوير المستمر ..ابتكاراً وابداعاً مهما كانت مكانتهم ودورهم ، وظائفهم حتى وإن كانوا رواد أعمال ، لننافس محلياً وعالمياً .
ولن نُغفل دور المنظمات ، في المساهمة الحقيقة والفاعلة ، وأهمية دورها في التطوير والتدريب والتأهيل في مختلف القطاعات ، و الضرورة الحتمية لهم في تأسيس إدارات متخصصة للابتكار والتطوير والإبداع تركز على الطاقات و اكتشاف المواهب واستغلالها ، حتى تسهل العمليات وتستحدث الأدوات ، وتبتكر الوسائل التي من شأنها تنويع مصادر الإيرادات وتحقق عوائد مادية ومالية ومعنوية .. تحرص على العمل بكل كفاءة وفاعلية ، وبالاستفادة من التجارب الناجحة لتحقيق تنمية مستدامة، بمواطنة مسؤولة ، لوطن طموح ، ولاقتصاد مزدهر ، في مجتمع حيوي ..
لتكون المملكة (دولة عظمى تملك النفط دون أن تكون دولة نفطية).
تحياتي
د. عثمان عطا