كان يسكن في بنسيون في أحد الأرياف الإنجليزية ، و كان يحرص على أن يلقي تحية الصباح على المذياع بالإنصات إليه ، و ذات مرة التقى بامرأة جميلة احتضنت يداها مذياعاً خشبياً أنيقاً ، تألق في عينيه و قلبه فأخذ يسألها : أين بإمكاني أن أجد نظيره ؟ ، فأخبرته ، و ما كان له سوى أن يذهب على الفور ليبتاعه ..
هذا ما رواه لي ذلك الرجل المفتون بالراديو ،
و هذا ما أخذني إلى ما سأرويه إليكم ..
كنت طفلة أحمل مذياع أمي خلسة دون أن تراني حتى لا توبخني إذ أني غالباً لا أعيده بعد الانتهاء منه إلى مكانه المخصص ،
أذهب به إلى حجرتي و هو يثرثر دون أن يصمت
أو يفتئ ، فتنبثق منه الموسيقى ، و ينبعث مِنه دلالّ ولد في حنجرة مذيعة مقبلة على الحياة ، فأنصت بتفاني ، فتدور علامات الاستفامِ من حولي ! و تقفز الأسئلة من صوتي ، فأتساءل حول مذيعات و مذيعي الراديو : تُرى من هؤلاء الذين يتحدثون إليَّ ؟ و كيف يستطيعون الوصول لفكرتي التي نبتت في رأسي و تجسدت فيّ ، مالذي يحدث ؟ أهو انشطار أم أنه تماثل أدهش غرابة التصوير ، أم لغة حرة تاقت لمساحةٍ من التعبير ؟
و ما إن أستدرك تساؤلاتي حتى يأخذني شرود ذهني إلى حيث البعيد ، إلى حيث التأمل ، فأحاول البحث عن إجابةٍ بالإياب إلى أمي كونها مرجعي و قاموسي و لغتي ، هكذا أدركت منذ اعتيادي على رؤية تلك الصورة التي استقرت في عيني دون أن تهجع ، و التي تأطرت بعلمٍ يصلي و تارة يخشع ! ، صورة مبجلة عكست لي ملامح أمي التي استأنست بقراءة كتابٍ كادت أن لا تنتهي صفحاته ، أجد ضالتي و إجابتي لديها ، ثم أعاود الركض في مضمار الإذاعة ، ألاحق الموجات ، أسبح في نقائها ، أمدد أفكاري على رهائها .. و أثرثر في أثير حالم فأظن أني تلك المتحدثة من خلف المايك ، فأعبث قليلاً في هندسة الصوت ، ثم أرحل ..
فتسوقني قدماي إلى باب من زجاج تعلوه لافته كتب عليها
"قسم الاعلام " فألحظ أنني كنت أكبر بجانب رغبتي التي أضحت تخصصاً و هدفاً و طريقاً ، فأدنو من المذياع ، لأتعرف على ماهيته ، و لأرى تفاصيله التي ولجتُ إلى أعماقها دون أدنى شعور ، فتبدو اللحظة أجمل ، وتتضح الصورة ، و لكن أظل أشعر بأن ثمة شيئاً غامضاً يسوج في سياج لهفتي التي رافقتني حتى أن أوصلتني إلى الوقوف أمام سيدي : المذياع الذي سألني ما سر حبك الأزلي لي ؟ فأجبته : أظن أن قلبي كائن أثيري ،
أو أنني موجة كهرومغناطيسية ،
أو أنني صوتٌ حسيّ .! أو أنني إيقاع متقطعٌ و بدايةُ لحنٍ ، أو أنني أغنية تجولت في ترددات الأثير !