قرأت قصة قصيرة جميلة في مغزاها وعميقة في معناها ، كان هناك أستاذ جامعي بروفيسور متقاعد واعتاد بأن يستقبل في كلِّ أسبوع دفعة من طلابه الذين تخرجوا وانخرطوا في الحياة العملية ، جاءت إحدى الدفعات فاستقبلهم ورجب بهم وسألهم عن أحوالهم فلم يسمع منهم إلا الشكوى من صعوبة الحياة وعدم الرضا مما يسبب لهم التوتر والعصبية وتنغيص الحياة ، قام الأستاذ وتركهم ورجع بعد دقائق يحمل إبريقاً كبيراً من القهوة وصينيّة مملوءة بفناجين القهوة ولكن لاحظ الطلاب بأنَّ الفناجين ليست من شكل واحد كما هو المعتاد بل منها الملون ومنها الشفاف ومنها البلاستيك الرخيص ولا يوجد فنجان يشبه الآخر ، فقال الأستاذ : تفضلوا واسكبوا لأنفسكم القهوة فقاموا بالتوالي فمن قام أولاً اختار أجمل فنجان وأنفسها ولما نفذت الفناجين الجميلة لم يبقى إلا الفناجين الرخيصة فقام الآخرين مضطرين ليسكبوا قهوتهم في تلك الفناجين .
كان الأستاذ ينظر إلى عيونهم ليرى ردة الفعل عليهم فوجد أنَّ الطلاب الذين أخذوا فناجين رخيصة يرشفون القهوة وهم ينظرون إلى زملائهم أصحاب الفناجين الغالية والجميلة ، ثمَّ قال : الفناجين وعاء فقط والتمتع بالقهوة هو الغاية وإنني أرى أغلبكم قد نسي القهوة ( الحياة ) وتعلق بالفناجين وهي وسيلة فقط وليست الحياة . انتهت القصة .
ونحن نعيش حرفياً هذه القصة فقد تركنا الجوهر والغاية وأصبحنا نركض خلف الوسيلة تركنا الحياة اللذيذة الجميلة وجرينا خلف المواعين التي هي وسيلة فقط ، لن أكون مثالية فالمال هو عصب الحياة ولكنه يبقى في الحقيقة وسيلة للحياة فما فائدة المال عندما يضيع عمر الإنسان في جمعه حيث يكون هو هدفه بالحياة ثم يفيق بعد أن يملك المال على باقة من الأمراض النفسية والعضوية .
التعلق بمظاهر الحياة ليس جوهر الحياة التي أصبحت في عصرنا هذا الغائبة الحاضرة غائبة عن وعينا لأننا جعلنا في مقدمة الوعي الحصول على المواعين فرجع الاهتمام بالحياة إلى الإهمال والنسيان ، أصبح وقع الحياة سريعاً أصبحنا نشعر بأنَّ النهار كساعة من الزمن متى صحونا ومتى خرجنا إلى الدوام ومتى رجعنا ولم نشعر بأنَّ هذه الأيام هي حياتنا تتسرب من بين أيدينا .
وتعدى هذا الشعور إلى معايير اجتماعية تحدد مكانة الفرد فيها مثلاً : معيار الحرمان أصبح مفهومه بالفكر الجمعي هو من لا مال لديه فهو محروم ، وأما من لديه المال فالمعيار أن يُقال عنه : (ذو حظٍّ عظيم ) .
ليصبح هو الغاية الرئيسية للحياة وكما نعلم بأنَّ المال لا يشتري كلَّ شيء فهناك أشياء لا يستطيع المال شراءها ، بل يقف عاجزاً ونأخذ مثلاً : الحنان الذي ينبع من القلوب لا أحد يستطيع شراءه ، الوفاء بالعهود ، شريك حياة مخلص ومحب ، اللقمة الحلال ، الأبناء الصالحون ، الحب الصادق الخالي من المصالح ، دعوة من الوالدين أو أحدهما وطلب رضاهم قبل الخروج من البيت إلى معترك الحياة ....
كلُّ هذه الأشياء وأشياء أخرى يصعب تعدادها لا يستطيع المال شراءها بالمال .
عندما نهتم بالمواعين ونهمل الغايات ننسى أنفسنا ولم نعد نتلذذ بطعم ونكهة ورائحة القهوة فما نفع الفناجين الجميلة والنفيسة الغالية أمامنا ؟
بقلم 🖋️ البتول جمال التركي