أمٌ في ملابس رثة، في حِجرها رضيع ضئيل الحجم ينظر إليها مسترحماً راجياً تقعد في رحم سيارة أكل عليها الزمان وشرب. بجانبها زوجها ذا عيون حائرة وفي الكرسي الخلفي أربع أخوات يرتدين نفس الملابس بنفس العمر تقريباً يقفزن من الجوع. أمام باب جمعية خيرية يترقبون حتى خرج رجلاً بيده " كرتون " به زيت و رز وسكر . تناول منه الرجل الكرتون ورد عليه صاحب الجمعية: لديك من العيال ما يفوق قدرتك، أفلا تعزل؟ رد بتهاون : "العزل مكروه!".
في حينا القديم كان هناك بيت احتوى زوج مقعد و زوجة أُمية ،فشلا في كل شيء إلا إنجاب الذرية والتي تخطى عدد أبناؤها "الدرزن". لقلة زاد البيت، كون الأبناء عصبة تنهب من الجيران ما تتناوله أيديهم من أطفال الحارة اللذين اشتكوا منهم الأمرين.
يتبجح الأب، الكسول في الشارع و النشيط في غرف النوم، بأنه يتبع سنة النبي في مكاثرة الأمم و نسى أو تناسى حديث أخر أن كلكم راع و مسؤول عن رعيته. فهِم أن مهمات الأب تقتصر على نثر بذوره في كل مكان و ترك إعالة أطفاله و تربيتهم على الجمعيات الخيرية والقلوب المحسنة. وتكلفنا نحن أبناء تلك الحارة بالهرب من أمام عصابة أبناؤه!
ماذا لو وقع هؤلاء الأطفال المساكين في ايدي قلوب قاسية؟ تعلمهم الكراهية والإرهاب والسرقة والنهب؟ إهمال العائلات لهذا الامر، أنتج وقوداً لمؤسسات تستغل حاجات الأطفال وجوعهم وتشغلهم في اعمال لا تناسب سنهم فيقعون ضحايا أو حتى معاقين . عمل الأطفال القٌصر يعتبر من الأعمال المحرمة دولياً، فالطفل يجب أن يعيش سنوات ربيعه في سعادة ومرح، قبل أن يشتد عوده و يتكفل بأعمال الكبار.
أنا لا أتحدث عن منع الإنجاب فهذا حرام ولكن أتحدث عن تنظيمه. فالأسر المعوزة يجب أن تراعي هذا الأمر وتكتفي بطفل أو اثنين يريبانه في أجواء صحية تعليمية بدلا من "دستة" عيال لا يفقهون في الدين أو الدنيا سوى الطمع في الأخرين أو مد اكفهم طلباً لما تجود به الأنفس الكريمة.
ليكن المزارع قدوة ، فهو لا ينثر بذراً إلا و رعاه بالماء و السماد حتى ينمو و يثمر. فكر اجدادنا المزارعين هو ما وفر طعام اليوم.
المفارقة الغريبة في الأمر، أن الاسر الفقيرة أكثر انجاباً من الأسر الغنية! احد الأصدقاء " عيال النعمة" كما يقال كان يشتكي لي الحال من تكاليف دراسة ابنته "الوحيدة" الباهظة والتي كانت تتمنى ان تصبح طبيبة ولم يؤهلها معدلها في الجامعات المحلية فاضطر لتحمل تكاليف دراستها . الحال نفسه مع الدول. تجد معدل الأعمار في الدول الغنية مرتفع جداً مقارنة بدول العالم الثالث. لأن الغني يرسم خطط طويلة الأجل لأبناؤه من دراسة و عمل ووظيفة بينما لا تتعدى نظرة الفقير مساحة غرفة النوم. فلم "كفرنحوم" اللبناني تحدث عن كثرة الأطفال في المخيمات اللذين يلقون ابناؤهم في رحم الشارع يكد ويعمل وهو لازال طفلاً صغيراً، حتى أن الابن "زين" رفع قضية على والديه لأنهم انجبوه!
دائماً كنت اعجب بالدول التي تخطا تعدادها السكاني أو قارب المئة مليون. تأمل حياتهم ، لديهم طفل أو طفلين ويحسنان تربيته و تعليمه حتى تجد الغلام أو الفتاة يتقن اكثر من عمل ومتفوق بالدراسة وهو لم يتجاوز الثلاثين والسبب هو التركيز بالتربية. الأمر الاخر المزعج هو ان بعضنا " الله يخلف" اخذ يتفاخر بأن لديه زوجة أو اثنتين أو ثلاث تاركاً عياله يعيثون بالأرض فساداً. إن لم تلفت لعيالك من تربية و تعليم أسس الدين الحنيف والأخلاق الإسلامية، تحول فخرك إلى عار عليك فمشاكل الأبناء يتحملها الأباء.
اختم المقال بحديث الحبيب حين قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)
و تفسير الحديث بما يختص بالرجل، أنه مسؤول عن تربية وتعليم وتوفير المأكل والملبس لعياله دون إسراف او تقتير وإن لم يستطع فعليه بالعزل و تنظيم النسل و "يفك الناس من شره و شر عياله"