ركَّزت رؤية المملكة 2030م، على ما يعرف بالهندرة Business Reengineering، التي تُعنَى بإعادة هندسة (هيكلة) العمليات والإجراءات الإدارية، وتصميمها بشكل جذري بهدف إنجاز تفضيلات جوهرية وتحسينات تركز على معايير معينة، مثل: الكُلفة؛ والجودة؛ والخدمة؛ والسرعة، وجعلتها من أولوياتها، جنبًا إلى جنب مع ما الجهود الحكومية المبذولة لوضع الخطط والتركيز على تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأجيال الحالية، والمقبلة؛ لذلك اعتمدت الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية، على استراتيجيات فرعية، ذات أهمية كبرى، منها ما يُسمَّى باستراتيجية الاستقطاب، الهادفة لاستقطاب عناصر ذات كفايات وخبرات جيدة، بغرض توظيفهم واستخدامهم في تطوير وتحسين الوضعية الاقتصادية لها.
وقولاً واحدًا: أصالةً عن نفسي ونيابةً عن كثير من موظفي الدولة في غير وزارة وقطاع أعمال، أقول: لسنا ضد هذا الاستقطاب، الذي سيرفد بالفعل قطاعاتنا الحكومية كافةً بكوادر وطنية ذوي مهارات، وخبرات والأهم، بوصفهم قيمة مضافة للعمل وصقل تجارب زملائهم الموظفين وتحفيزهم.
وبالرغم من احترامنا اللامحدود لعمليات التطوير والتحديث الإداري الجارية وتقديرًا لإجراءات تحسين الأداء والارتقاء بجودة العمل الإداري في مختلف الوزارات، والقطاعات الحكومية ذات العلاقة، التي بالفعل تتطلب توجهات سريعة من القيادات الإدارية؛ لتواكب إرادة التغيير، وإدارة التطوير المرسومة من خلال تبني المفاهيم الإدارية الحديثة؛ إلا أننا فؤجئنا بصدمة، بعد حوالي ثلاث سنوات من تطبيق هذه الاستراتيجية، فوجئنا بحقيقة مهمة: المُسْتَقطب لم يقتنع بقدرات الموظف الحكومي، الذي بادله الشعور نفسه! فضلاً عمَّا لاحظتُه وعانى منها غالبية الزملاء الموظفين: شبابًا وقدامىً، إحباطًا، وقلة حيلة من القصور الواضح للتطبيق على أرض الواقع من لدن قيادات إدارية، شاخت فكريًا وترهلت نظاميًا وكان من أكبر المثالب؛ نتيجة الاختيارات غير المصيبة، فتفكك دولاب العمل، الذي ظل يراوح مكانه؛ ونتيجةً لتجاهل وتغييب أدوار الموظفين الحكوميين القدامى، تولَّد لديهم الشعور بأنهم غير مرغوب فيهم، وعلى أثر ذلك تسرَّبت أعداد كبيرة من الموظفين النوعيين، لبعض الوزارات والقطاعات الأخرى، وتقاعد البعض الآخر تقاعدًا مبكرًا ، لصالح أشخاص أقل منه علمًا وخبرة؛ وتجربةً، ومعايشةً للعمل بل وإنتاجيةً.
وبعد هذه المعاناة، وسوء تطبيق خطة التحديث والتطوير والتطبيق للاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية؛ يحق لنا أن نتساءل: هل توافرت لدى القيادات المسؤولة الخطة البديلة (ب)؛ لتقويم تجربة الاستقطاب بما يراعي حاجة العمل وتطويره وإعادة هيكلته، وفقًا لمعايير مهنية، شفّافة وعادلة؛ ويأخذ في الحُسبان جهود الموظفين القدامى بما لا يغمط جهودهم ويشتتهم، ويقلّل من حجمهم وأوزانهم الوظيفية؟
وهل نحن بالفعل جادون في الحد من الإنفاق العام؛ وإيقاف الهدر في المصروفات، وتقليل التوسع في الاستعانة بالمستشارين المُسْتَقْطَبين، الذي يضغط بقوة على باب الأجور والرواتب في الموازنة العامة دونما فائدة، تُذكر، بالنظر لما يتقاضونه من أموال تصل قيمتها أضعافًا مضاعفة لما ينتجونه ويقدّمونه!
مَنْ يَدُق الجرس، ويحاول التصدي لممارسات بعض القيادات الإدارية في الوزارات والدوائر الحكومية، الذين أعطوا لأنفسهم مطلق الحرية، والصَّلاحية والحق في تعيين هؤلاء المُسْتَقْطَبين دونما معايير غير مهنية، تشوبها المحاباة، والمجاملة؛ ما يؤدى لتصعيد أشخاص، جديرين بالثقة، غير جديرين بالعمل داخل دولاب العمل الحكومي.
وبالرغم من توافر ضوابط ومعايير حاكمة لاستقطاب الكفايات المتميزة في القطاعات الحكومية من ذوي التخصصات المستهدفة، والقيمة المضافة؛ إلا أن جميعها، ظلَّ حتى الساعة واقعيًا، حبرًا على ورق؛ لانتفاء عناصر مهمة من عناصر الاختيار والضوابط، مثل: خلفية هذا المستقطب وكفايته السابقة، ومدى إنجازاته السابقة، وهل بالفعل هو قيمة مضافة، أم يظل عبئًا على دولاب العمل الحالي، اعتمادًا على سلب جهود الموظفين القدامى دون إبداع أو ابتكار؛ وأيضًا عدم وضوح المهام؛ فعند تكليف أحدهم/إحداهن، لا يجد بعضهم أية صلاحيات أو مهام محدَّدة ولكن يجد عقدًا للاستقطاب كيفما اتفق، وعندما يسأل المُستَقطبون الجادون بالفعل عن مهامهم وصلاحياتهم، لا يجدوا إجابات مقنعة وشافية، وفي الأخير، يجد أنه أضاع وقته، ووجد في هذه الأجواء مَنْ جاء عبر الوساطة و المحاباةً، تربة خصبة وممتازة لعطالته وبطالته المقنعة!
عنصر مهم آخر: التقويم والمحاسبة نهاية كل عام تعاقد أو تكليف للوقوف على حجم الإنجاز من عدمه، والذي يوضح مدى الحاجة إلى جهود هذه الكفايات المستقطبة مستقبلاً.. الذي يمرح هنا وهناك دون ضابط ولا رقيب على أرض الواقع؛ فيخرج من قطاع لآخر ليبدأ مسيرة التسويف والمماطلة الإدارية من جديد دون إنجاز فعلي!
لنصحو جميعًا على حقيقة مهمة ومؤكّدة أن إنتاجية وعطاء غالبية موظفي الدولة، أعلى مردودًا وإنتاجية، من معظم المستشارين الذي تم استقطابهم؛ وإن احتاجوا، كغيرهم، إلى برامج تدريبية دورية جادة، تؤهلهم بالنهوض بالأدوار المنشودة، والمساهمة في الخطط المرسومة في هذا الخصوص، مع توافر الكفايات المستقطبة ذوي التأثير والتحفيز لأقرانهم في القطاعات الحكومية المتنوعة..