لكوني أمتلك دار نشر وأترأس إدارتها فقد وجه إلي قبل أيام سؤالا ضمن استبيان موجه لأصحاب دور النشر، كان السؤال عن أسباب ضعف توزيع الكتاب العربي، وهل لدور النشر دور في ذلك؟
حقيقة الأمر أن هناك ضعف في توزيع الكتاب العربي ولكن لم أكن أتوقع أن هذا الضعف يرقى لمستوى النقاش، أو أن يشكل بمجمله ظاهرة تلفت النظر وتطرح حولها الأسئلة، فمعنى هذا أن تفكيرنا أصبح سطحيا جدا وصرنا نركز على الجزئيات ونغفل عن القضايا الكبرى والتي تتمحور بطبيعة الحال حول الكتاب، قد يظن البعض أن في طرحي هذا تعصبا وانحيازا لدور النشر لإعفائها من مسؤولياتها، كون هذه الدور هي المعنية بتوزيع الكتاب ومن تتحمل مسؤولية وصوله إلى المكتبات والمعارض ونقاط التوزيع المختلفة.. لا أنكر أبدا هذا الدور المنوط بدور النشر وأن توزيع الكتاب هو من اختصاصها، ولكن هذه الرؤية ليست سوى نظرة قاصرة لبقعة ضوء على زاوية من المشهد، وقبل أن أوضح الأمر برمته سأطرح سؤالا على القائلين بتقصير دور النشر في توزيع الكتاب، وسؤالي هو أليس في زيادة توزيع الكتاب زيادة في مبيعاته وبالتالي تحقيق قدر أكبر من الأرباح لدور النشر المعنية بتوزيعه؟.. من البديهي أن الإجابة هي نعم، وبالتالي فلماذا تقصر دور النشر في توزيع الكتاب طالما هي المستفيد الأول من زيادة التوزيع واتساع رقعته؟
سيضعنا هذا السؤال أمام منطق يزعزع الاعتقاد بأن دور النشر هي السبب في ضعف توزيع الكتاب العربي وبالتالي عدم تواجده في المكتبات أو المعارض مثلا، لكننا في ذات الوقت لن نعفيها تماما من تهمة التقصير، ولكن ما نريد الوصول إليه هو أن هناك أسباب أهم لو وضعناها في تراتبية منطقية لكانت دور النشر هي السبب الأخير من حيث التأثير والأهمية ولوجدنا أن وراء ضعف توزيع الكتاب العربي قضايا أهم تتعلق بحاضر الأمة العربية ومستقبلها وهو ما يجب الالتفات إليه والتركيز على اسبابه ومسبباته قبل النظر إلى الجزئيات الأخرى
ولو تأملنا في واقع علاقتنا بالكتاب سنجد أن الكتاب أصبح بشكل عام سلعة غير رائجة، وأصبحت القراءة شبه منقرضة، وسأنقل هنا بتصرف بعض الأرقام التي توضح حجم الكارثة التي نواجهها، حسب بعض الدراسات التي نشرت في بعض المواقع قبل عامين والتي جاء فيها ما يلي: (متوسط معدل القراءة في العالم العربي لا يتعدى ربع صفحة للفرد سنوياً، وذلك بحسب نتائج خلصت إليها لجنة تتابع شؤون النشر، تابعة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر
ويعتبر هذا المعدل منخفضاً ومتراجعاً عن السنوات الماضية، ففي عام 2003، وبحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن اليونسكو، كان كل 80 عربياً يقرأ كتاباً واحداً، بينما كان المواطن الأوروبي يقرأ 35 كتاباً في السنة، والمواطن الإسرائيلي يقرأ 40 كتاباً، ورغم الفارق الكبير في نصيب القراءة للمواطن العربي مقارنة بالأوروبي، إلا أنه يعتبر أفضل من الوقت الحالي، حيث تراجع إلى ربع صفحة فقط، وهو معدل كارثي
- ساعات القراءة
تقرير التنمية البشرية عام 2011، الصادر عن "مؤسسة الفكر العربي" يشير إلى أن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنوياً، وهذا يوضح لنا مدى الكارثة الثقافية والعلمية التي يعيشها المواطن العربي، مقارنة بمواطنين في الدول الأوروبية، كما يؤكد وجود هوة ثقافية شاسعة بين ثقافة المواطن العربي وثقافة المواطن الأوروبي.
- إنتاج الكتب
أنتجت الدول العربية 6500 كتاب عام 1991، بالمقارنة مع 102000 كتاب في أمريكا الشمالية، و42000 كتاب في أمريكا اللاتينية والكاريبي.
وبحسب "تقرير التنمية الثقافية" الذي أصدرته منظمة اليونسكو فإن عدد كتب الثقافة العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا يتجاوز الـ5000 عنوان. أما في أمريكا، على سبيل المثال، فيصدر سنوياً نحو 300 ألف كتاب.
وإذا انتقلنا إلى عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب عربي نجد اتساع الهوة، فالكتاب العربي لا يطبع منه إلا ألف أو ألفان، وفي حالات نادرة تصل إلى 5 آلاف، بينما تتجاوز النسخ المطبوعة لكل كتاب في الغرب 50 ألف نسخة، وقد يصل إلى أكثر من هذا العدد.
- ترجمة الكتب
وتصل نسبة ترجمة الكتب في الوطن العربي إلى 20% من الكتب التي يتم ترجمتها في اليونان مثلاً.
وفي النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين، كان متوسط الكتب المترجمة لكل مليون مواطن، على مدى خمس سنوات، هو 4.4 كتب "أقل من كتاب لكل مليون عربي في السنة"، في حين أنه في هنغاريا كان الرقم 519 كتاباً لكل مليون، وفي إسبانيا 920 كتاباً لكل مليون)
من خلال ما سبق نستنتج أننا أمام أزمة كبيرة تعانيها الأمة، فهناك عزوف واضح لدى الشباب عن القراءة، وخاصة بعد ظهور القنوات الفضائية والإنترنت، وضياع أغلب الوقت فيهما وبالتالي لا نرى فيهما أي ترويج للكتب أو حض على القراءة..
قد يعلل البعض هذا العزوف عن القراءة بالبعد الاقتصادي حيث الظروف المادية الصعبة تجعل مسألة شراء الكتاب مسألة ثانوية فهناك أولويات أهم، وهذا كذلك سبب لا يرمى عليه هذا العزوف فمن يعشق الكتاب ويحب القراءة لن يفضل شيء عليهما مهما كان
لعل معارض الكتاب خير مثال وأفضل مقياس يوضح هذه الحقيقة، فغالبا ما نجد الإقبال الشديد على هذه المعارض، ولكن حين نحاول معرفة مدى إقبال زوار هذه المعارض على شراء الكتب واقتنائها سنجد أن نسبة المبيعات قليلة مقارنة بحجم الزوار، فالبعض يذهب لهذه المعارض بغرض التنزه وقضاء أوقات الفراغ، وأظن أغلبنا قد سمع عن مبادرات مختلفة تظهر بين الحين والآخر في عدد من البلدان العربية الغاية منها تشجيع الشباب على القراءة بعد توفير الكتب لهم مجانا أو بأسعار زهيدة وهذا دليل آخر على استفحال مشكلة العزوف عن القراءة وانتشارها
خلاصة الأمر أن المشكلة الحقيقية في توزيع الكتاب تكمن في العزوف عن القراءة قبل أي شيء فلو كان الكتاب رائجا والإقبال عليه كبيرا، فسنجد دور النشر تحرص على توزيعه ووصوله لكل المكتبات وبالتالي سنجد المكتبات تحرص على توفير الكتب وبيعها ولن يكون هناك أي إشكاليات في التوزيع أو البيع كون ازدياد نسبة المبيعات ستحقق الأرباح التي يصبو إليها كل من المكتبات ودور النشر
ورغم أن هناك أسباب أخرى لضعف توزيع الكتاب العربي لكنها لاترقى بأي حال إلى الأحوال إلى مستوى مشكلة العزوف عن القراءة ،من هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر عدم التوافق والاتفاق بين دور النشر والمكتبات حول سعر الكتاب والنسبة المخصصة لكليهما حيث تحاول المكتبات الاستئثار بنصيب الأسد وترك الفتات لدور النشر خاصة عندما يقل عدد المكتبات التي يعرض من خلالها الكتاب للبيع فتستأثر مكتبة أو مكتبتان بسوق الكتاب وخاصة إذا كانت فروعها تتوزع على مناطق واسعة وكانت المنافسة في هذا الجانب ضعيفة
على كل أظن أن أمامنا جميعا مسؤولية كبرى ابتداء من الأسرة حتى مؤسسات التعليم وكل الجهات الحكومية والشعبية ووسائل الإعلام تتخلص هذه المسؤولية في أن نعمل جميعا على إعادة الاعتبار للقراءة وتبصير الشباب بأهمية الكتاب والحث على المطالعة وإلا سنصبح أمة مفلسة فكريا وثقافيا ولا قيمة لنا بين الأمم.