كان يمكن لكثير من الأشياء أن تمضي بسلام وهدوء، لولا أننا استوقفناها بالأسئلة، وتشبّثنا بها خوفًا مما تعنيه.
إن ما يحدث في هذه الدنيا لا يطلب منا أن نراه، ولكننا نطالبه أن يختفي، ثم نتعجّب لماذا طال أثره وثقل حضوره!
ما يحدث في هذه الدنيا بطبيعته عابر، أما ما نرفضه فإننا نُبطِئ مروره بأيدينا. لأن الرفض لا يُنهي التجربة، بل يربطنا بها. كأن الحدث يطرق الباب ليؤدي دوره ثم يمضي، فنغلق في وجهه، فيجلس أطول مما ينبغي.
بعض الآلام لا يطول بقاءها لأنها قوية، بل لأنها مرفوضة.
في هذه الدنيا نور وظل، خير وشر، قرب وفقد. ومع ذلك نحاول أن نأخذ منها وجهًا واحدًا ونترك الباقي، كأن الصورة تكتمل بنصفها. ثم نستغرب حين يظهر الظلام، مع أنه لم يكن يومًا دخيلًا. هو جزء من المشهد، حاضر بإذن لا بفوضى، وموجود ليكشف لا ليهزم.
ومن أعجب ما فيها أن إبليس باقٍ إلى يوم القيامة؛ لا يُقتل ولا يُلغى ولا يُمحى دوره. فالله ﷻ هو الذي أوجده وسمح له بهذا الامتداد، لا لأن الشر مرغوب، بل لأن الحياة قائمة على المدافعة. وجوده ليس دعوة لاختياره، بل مساحة يُختبر فيها الوعي، ويظهر فيها الفرق. إنه خيار آخر، وليس الوجهة التي يجب نسير إليها.
ولكي لا يختلط الفهم في دورنا معه، علينا أن لا نقاتل الشر حتى نُستنزف، ولا أن نرحّب به فنضلّ، بل أن نفهم موقعه دون خصومة. القبول هنا ليس محبة ولا تبريرًا، بل وعي. اعتراف بأن هذا الجانب موجود، حتى لو لم يكن من نصيبنا، وحتى لو لم نختره لأنفسنا. إدراك يخفف الصراع دون أن يُميّع الحق.
عجيبة هي الدنيا… فالخير فيها لا ينتصر بالصدام، بل بالحضور فحسب. كلما اتسعت مساحة الخير، ضاق الباطل من تلقاء نفسه. لم يُطلب منا أن نطارد الظلام، بل أن نُشعل النور. ولم يُطلب منا أن نُفني الشر، بل أن نقيم الحق.
الأمر أبسط مما نتصور، وأعمق مما نمارس. يشبه نصف كوب الماء؛ لسنا مطالبين أن نفرغ منه الهواء، بل يكفي أن نزيد الماء. وكذلك الباطل، لا يضعف بالمعارك الطويلة، بل حين يقوى الحق في الداخل.
عجيبة فعلاً، فما نلاحقه يهرب، وما نتخلى عنه يأتي… وليس ذلك إلا لأننا نطلب بخوف، فتصبح اللهفة مربكة، والقرب اختناقًا، والرغبة قلقًا. وحين نهدأ، ونكفّ عن هذا التشنج، يتغيّر المشهد كاملاً، كأن الدنيا تبتسم لمن فهمها أخيرًا.
عجيبة هي الدنيا، فما نرفضه يطيل مقامه، وما نقبله بوعي يؤدي دوره ثم يمضي. ليس أن تختفي التحديات، ولكنها تعود إلى حجمها الحقيقي… عابرة. ونبقى نحن أخف، أهدأ، ومندهشين من هذا العجب الذي نعيشه كل يوم.

