إن قيمة الأشياء ليست في ذاتها، بل في المسافة التي تؤدي إليها والجهد الذي تتطلبه. هذه هي الحقيقة العميقة التي تحكم تفاعلاتنا مع العالم، وتؤثر في تركيبة العقل البشري؛ فالإنسان مُبرمج على حب المكافأة، لذا كان السعي مقدم على النتيجة، فيحافظ على ما اكتسبه بجهد، ويثمّن ما أعمل ذكاءه في إيجاده، حتى أنه قد يفرط في الاحتفاء بطريق الوصول لدرجة أن ينسى النتيجة المطلوبة أحياناً.
إن الأثر الباقي والمستدام هو لما تُدرَك تفاصيل السير إليه وتُستوعب تضاريسه.
فالغزال يحتفظ بقيمته ومكانته لا لأنه أوفر لحماً أو ألذ طعماً، بل لامتناعه عن الرغبات الفاترة، واقتصاره على ذوي الإرادة والعزم والسعي والصبر والمثابرة. قيمته مستمدة من كونه هدفاً نبيلاً يتطلب الإعداد والتخطيط والجهد المُركّز. وفي المقابل نجد أن التيس أوفر لحماً وألذ طعماً، ولكن مشكلته ليست في ذاته، بل في توافره وإتاحته. هذا التواجد الذي يتجاوز حدود الرغبة يصبح عبئاً يفقد حضوره رغم تواجده، وتذوب قيمته في سكك الإتاحة بلا ثمن.
هذا المثال منسحب على تفاصيل حياتنا وسلوكياتنا وأدواتنا ومواردنا؛ فقوة التأثير الحقيقية لا تكمن في التواجد الذي يطغى على المشهد بلا ضرورة، ولا في الإتاحة التي تُعطى قبل أن تُطلب، ولا في المعلومة التي ليس لها سائل مستعد، فالوجود الذي يتجاوز الحدود يتحول إلى عبء. وهنا تبرز حكمة التأثير العميق، إذ يثمّن الناس الجهد المتبصَّر أكثر من النتيجة المجردة السهلة، فأثمن العطاء ما كان بعد التماس صادق نابع من طلب حقيقي، وأعمق الإجابات ما كانت بعد سؤال قد تشكّل وتجذّر في عقل السائل.
إن العطاء بلا طلب يفقد بريقه وقيمته الحقيقية، فقد قيل: "لا تُسلِم كنزك لمن لم يحفر له، ولا تُجب سؤالاً لم يتشكّل بعد في عقل السائل" فالمعلم الحكيم هو الذي يثير السؤال ويصعّب جوابه بشكل مدروس، ليوقظ السعي ويرفع الاستعداد، والقائد المؤثر ليس الذي ينتقي كلمته فحسب، بل الذي يتحرى توقيت كلمته بدقة لتأخذ مكانها الحقيقي.
وكما أن الإتاحة المفرطة تذيب القيمة بانتثار الهدف، فإن هناك شقاً آخر من التطرف لا يقل ضرراً، وهو التمنع غير المدروس أو المبالغ فيه. إن التمنع المفرط يتحول من وسيلة لخلق القيمة إلى حاجز يزهق روح المثابرة والتقدم. فعندما يصبح السعي شاقاً، أو يصبح الهدف محجوباً، فإن العقل البشري الذي يحب المكافأة على الجهد، يبدأ في التراجع، ويستغني بالتيس عن الغزال.
الملهم الفاعل المؤثر الحقيقي هو الذي يعرف متى يختفي ومتى يظهر، متى يكون التمنع مطلوباً لرفع القيمة، ومتى تكون الإتاحة ضرورية لتغذية الأمل واستدامة السعي. أما التمنع المُفرط، الذي يتحول إلى تعقيد بلا هدف أو حجب بلا حكمة، فإنه لا يرفع القيمة بل يقتل الرغبة، ويدفع الآخرين إلى "التيس" الأسهل والألذ والأوفر.
إن التمنع الذي يفتقر إلى الهدف الواعي هو شكل من أشكال سوء التدبير، وشكل من أشكال التعالي والتكبر، فيحوّل الهدف النبيل إلى وهم، ويُفقد العملية التعليمية أو القيادية أو الإنسانية بريقها.
لذلك، يبقى الإنسان مؤثراً وفاعلاً ليس لأنه يمنح بلا حدود، ولا لأنه يتمنع بتعقيد بلا داعٍ، بل لأنه يجسد حكمة التوازن الدقيق، إنه يجعل لكل فعل ولكل لحظة ولكل كلمة هدفاً واعيًا، وحياً في وعي من حوله، فالغزال متاح لمن يثمّنه.
إن كل حضور له معنى، وكل فعل يترك أثراً، وكل كلمة تُقدّر، شريطة أن تكون غزالاً لا غيره .

