من طبيعة الإنسان أنه يتأقلم. وهذه نعمة عظيمة، فالتكيّف مع الظروف المختلفة يساعدنا على الاستمرار والبقاء. غير أن لهذه القدرة وجهاً آخر مظلماً، فحينما تصبح عادة التأقلم حجابًا يمنعنا من رؤية الخروج، فنألف الألم، ونُطبع مع البؤس، ونُدمن العيش في ما لا نحتمل، حتى وإن كنا نرفضه بقلوبنا وعقولنا.
كثير من الناس يعيشون في ظروف لا يرغبون بها: فقر مدقع، مرض مزمن، علاقات سامة، أو نمط حياة كئيب، وهم في قرارة أنفسهم يتألمون، يرفضون، بل ويحاربون هذا الواقع، لكنهم – من دون وعي – يتشبثون به. وفي الحقيقة أن النفس إذا اعتادت ألفت، وإذا ألفت تمسكت، ولو كان ذلك في غير مصلحتها.
فقد نجد مريضًا يتعايش مع ألمه سنوات طويلة، رافضًا زيارة الطبيب، أو تجربة علاج جديد، ليس كسلًا أو عدم مبالاة، بل لأن عقله الباطن بات يرى في المرض جزءً من هويته. ونجد فقيرًا يرفض أي فرصة تغيير حقيقية، لأنه يشعر بالخوف من المجهول، وقد أصبح الفقر عنده حالة “مريحة” لأنه مألوف، بينما الغنى أو التحسن فيه قلق وتهديد لحالة التوازن التي نشأ عليها. ونجد من يعيش في نمط حياة بائس، مليء بالفوضى أو العشوائية أو الإسراف أو الكسل، وهو يشتكي من حاله طوال الوقت، لكنه لا يخطو خطوة واحدة نحو تغيير حقيقي، لأن اللاوعي يربطه بهذه الحياة التي اعتاد على تفاصيلها.
هذا التناقض بين ما نرفضه ظاهرياً وما نتمسك به داخليًا يخلق دائرة مغلقة، يعيش فيها الإنسان بين الألم والتبرير، بين الرفض الظاهري والقبول الباطني. والأخطر أن هذا النوع من التعايش لا يُشعر الإنسان بأنه مسؤول عن حياته، بل يُقنعه بأن الظروف هي السبب، وأن لا يد له في ما آل إليه.
فكيف نكسر هذه الحلقة؟
البداية تكون بالوعي. أن يعترف الإنسان لنفسه: هل أنا بالفعل أريد التغيير؟ أم أنني فقط أشتكي من الوضع دون أن أتحرك؟ هل هناك جزء مني يخاف من التحسن لأنه لا يعرفه؟ هل أصبحت أرتاح في دوري كضحية؟
وبعد ذلك، تأتي الخطوة الأصعب: وهي التغيير التدريجي. لأن الانفصال عن نمط حياة مألوف -حتى وإن كان سيئًا- يحتاج إلى شجاعة، وتدرج، ودعم. يجب أن يسمح الإنسان لنفسه بأن يرى الاحتمالات الجديدة، وأن يتذوق طعم حياة مختلفة، وأن يعيد تعريف نفسه دون قيود ماضيه.
إن الحياة ليست مفروضة كما نعتقد، ولا الألم قَدَرًا أبديًا لا فكاك منه. بل هي اختيارات، بعضها واعٍ وأكثرها غير واعٍ. ومن أراد النجاة من نمط بئيس، فليبدأ أولًا بإضاءة داخله، وليكن مستعدًا لوداع ما ألفه، لأن النجاة غالبًا لا تكون في الاتجاه الذي تعوّدنا عليه، بل في الذي خفنا منه وتجنبناه.

