الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم وبعد...
يتطلع الإنسان دائما إلى غده ولا يقطع أمله غير الموت، فالتفكير في المستقبل هاجس إنساني. والمجتمعات الإنسانية السوية دائما ما تتطلع إلى مستقبل أفضل لها ولأجيالها القادمة، ولذلك وجدت دراسات تهتم باستشراف المستقبل.
مفهوم الدراسات الاستشرافية:
نالت الدراسات الاستشرافية اهتماما كبيرا من قبل المهتمين بالمستقبل وتطوره، وتختلف الدراسات باختلاف المجال المخصص لاستشراف مستقبله، كالمجال الفكري والسياسي الاقتصادي...
وتعددت كذلك تعريفات هذه الدراسات، وأرى أن من التعريفات الجيدة ما نقله رحيم الساعدي عن كتاب (الدراسات المستقبلية منظور تربوي) في كتابه مقدمة إلى علم الدراسات المستقبلية : "مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية، والعمل على إيجاد حلول علمية لها كما تهدف إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة للموقف المستقبلي، والتي يمكن أن يكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل".
فهذه الدراسات هي محاولات للتنبؤ بالمستقبل من خلال وضع احتمالات مدروسة لما يمكن أن يكون عليه والتطلع إليه.
أهمية الدراسات الاستشرافية:
تكمن أهمية هذه الدراسات في أهمية مستقبل الأوطان التي تملك شعبا طموح يريد له ولوطنه مستقبلا أفضل في شتى المجالات.
فاستشراف المستقبل هو قوة مضادة لما يخل بالوطنية في نفوس المجتمعات، خاصة المجتمعات المحاربة التي تواجه حروبا نفسية تكمن في بث أفكار محملة لما يمكن أن يضعف النفوس ويكبلها عن السير لصنع مستقبل مشرق لها: مثل تلك الأفكار التي تقلل من إنجازات الوطن وتحاول تشويه ما يتطلع إليه، وهي تريد بذلك أن تخل بأمنه واستقراره ووطنية أفراده.
فعندما تكون هذه الدراسات موجودة، ولها اهتمام كبير من قبل الباحثين والدارسين، فلا يكون لهذه الأفكار المخلة بالوطنية موضع في النفوس، لأن تلك الدراسات تعطي أملا ورؤية للمجتمع.
وفي المملكة العربية السعودية الوطن الطموح اهتم ولاة أمرنا -حفظهم الله- بمسألة استشراف المستقبل وجعلوا له أهمية في جميع المجالات الوطنية المعاصرة، وبثّوا في نفوس أبناء شعبهم ما يطمئن ويشجع للسير بقوة وإرادة إلى ذلك المستقبل المشرق.
وكما قال ولي العهد محمد بن سلمان حفظه الله: "لسنا قلقين على مستقبل المملكة، بل نتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا، قادرون على أن نصنعه -بعون الله- بثرواتها البشرية والطبيعية والمكتسبة التي أنعم الله بها عليها"
فأهمية هذه الدراسات لا تقل أهمية عن الأمن الوطني والفكري، وعن أهمية التطور الاقتصادي والمعرفي.
وكذلك تكون أهمية هذه الدراسات في مسألة تلافي الأخطاء الماضية وعدم تكرارها. فكما قال فضيلة البروفيسور محمد بن خالد البداح في دراسة له عن توظيف استشراف المستقبل في الدراسات الإسلامية المعاصرة: "فاستشراف المستقبل ما هو إلا جهد علمي منظم يعمد إلى استخدام بعض القواعد والاستراتيجيات التي تقوم باسترداد الماضي، وتستحضر الواقع، وتستشرف المستقبل؛ بغية إيجاد حلول عملية لجملة من القضايا المعاصرة الملحة."
فثلاثية الرؤية المتكاملة -وأعني بها: استرداد الماضي واستحضار الواقع واستشراف المستقبل- التي ذكرها البروفيسور تضمن -بإذن الله- مستقبلا أقل أخطاء وأكثر استعدادا للاحتمالات الواردة والطارئة.
ودراسة المستقبل من منطلق تجنب الأخطاء هي تشريع إلهي، فقد أمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن ننظر إلى أحوال الأمم السابقة وأخذ العظة والعبرة وتجنب أخطائهم لكي نتجنب مستقبلهم وما جرى لهم فيه.
وأخيرا أرى أن استشراف المستقبل هو من أسباب حسن الظن بالله والتوكل عليه، بأن يجعل الله لنا مستقبلا أفضل بسواعد أبناء الوطن بعد توكلهم على خالقهم ومدبر مستقبلهم.
فالأوطان المتطلعة إلى مستقبلها مع فهم للواقع وللماضي ودراسة شاملة لما كان ولما قد يكون، هي أوطان تسعى إلى التطور والتنمية، ومن ثَّم هي أوطان قوية بإرادتها سائرة بخطى واثقة لبناء ذلك المستقبل المدروس بإذن الله.
رائد بن ناصر الموسى