قرأت في كتاب : ( الإنسان يبحث عن معنى ) للكاتب : فيكتور فرانكل وهو طبيب نفسي وعصبي نمساوي الجنسية يهودي الديانة ويحكي عن معاناته في سجون النازية الألمانية إبان الحرب العالمية الثانية حيث اقتيد مع أقرانه اليهود لمعسكرات العمل والاستعباد القسري ويتكلم عن نفسه بوصفه معتقلاً وعن موضوعية الظرف باعتباره طبيب نفسي ويقول :
(وهناك خبرة شخصية أتذكرها، حين كانت الدموع تنهمر من عيني من وطأة الألم ، إذ كان بقدمي قروح مفزعة نتيجة ارتدائي لحذاء ممزق، وأخذت أعرج سيراً على الأقدام لبضعة كيلومترات مع صف طويل من الرجال من المعسكر إلى موقع عملنا، وكانت الرياح القاسية الباردة تصفعني. أخذت إذ ذاك أفكر في المشكلات الصغيرة التي لا تنتهي لحياتنا التعيسة: ما الذي سنأكله هذه الليلة؟ هل إذا منحونا قطعة من السجق كحصة إضافية أستطيع أن أستبدلها بقطعة من الخبز؟ هل أستطيع استبدال آخر سيجارة تبقت معي بشيء من الحساء؟ هل أستطيع الحصول على قطعة من السلك أستخدمها كرباط للحذاء؟ هل أصل إلى موقع عملي في الوقت الملائم كي ألحق بمجموعتي التي أعمل معها عادة، أم سأوضع مع مجموعة أخرى تعمل تحت إمرة رئيس فظ ؟ كيف أتقرب إلى حرس الكابو الذين يستطيعون مساعدتي في الحصول على عمل بالمعسكر بدلا من القيام بهذا العمل اليومي الشاق الذي يتطلب سيرا طويلا على الأقدام؟
لقد سئمت تلك الحالة التي اضطرتني، في كل يوم وكل ساعة، إلى التفكير فقط في تلك الأشياء التافهة. واشمأززت مما كنت فيه، وعليه أجبرت أفكاري على التحول إلى موضوع آخر: وفجأة رأيت نفسي واقفا في إحدى القاعات على منصة لإلقاء محاضرة عظيمة، وأمامي كان يجلس مستمعون على مقاعد مريحة، ويصغون إليّ بانتباه، وكان موضوع هذه المحاضرة عن سيكولوجية معسكر الاعتقال ، ولقد صار كل ما يُكدرني ويقمعني في تلك اللحظة موضوعيًا ومرئيًا وموصوفًا من وجهة النظر العلمية البعيدة. بهذه الطريقة نجحت إلى حد ما أن أعلو فوق الموقف، وأن أسمو فوق المعاناة والآلام التي كانت تعتمل في نفسي في تلك اللحظة، فرأيتها كما لو كانت من الماضي بالفعل. لقد صرت أنا ومتاعبي موضوعا لدراسة نفسية شيقة أقوم بها بنفسي . ) انتهى النقل
من رابع المستحيلات أن يستطيع الآخرون باستعبادهم وظلمهم وهيمنتهم عليك جسدياً ، لن يستطيعوا اختراق فكرك والهيمنة عليه إلا إذا استسلم الإنسان وضعف وتملكه اليأس ....الفكر الحرُّ لا ينهزم مطلقاً مهما كان الجسد يعاني من آلام أو سجن أو استعباد أو تعذيب وأوضح وأكبر مثال لنا هو سيدنا بلال ابن رباح رضي الله عنه وأرضاه فإنه رغم التعذيب الذي لا يُطاق والعبودية الظالمة إلا أنَّ كفار قريش لم يستطيعوا أن يخترقوا عقله وفكره لكي يستعبدوه ، فكان فكره حُراً طليقاً رغم أنَّ جسده لايملك أدنى معاني الحريّة ....