الهياط كلمة كانت تعني قديما ما يحدث من جَلَبة وضجيج وشر حين اجتماع القوم للإصلاح ، ثم تطورت دلالتها حتى صارت تعني في الاستعمال الشعبي الخروج عن المألوف بطريقة غير عقلانية ، ويكون ذلك بالغلو في التصرف أو السلوك . وقد يكون الهياط تهريجيا حين يقصد المهايط الفكاهة والمرح ، كما قد يكون صارما حين يتظاهر المهايط بالجِدّية . وفي كلا الحالين هو ضرب من العمل المسرحي يقوم به المهايط على مسرح المجتمع ، يكون ظريفا مقبولا في حالة التهريج وقبيحا مرفوضا في حالة التظاهر بالجدية .
وكلمة "الهياط" بهذا المعنى الشعبي تترادف مع كلمة شعبية أخرى هي "الغَزْلة" ، وقد عرض لهذه الكلمة من تطور الدلالة ما حصل لكلمة الهياط ؛ فالغَزَل هو محادثة الفتيان والفتيات والمراودة بينهم . والرجل "الغَزِل" هو كثير التغزل بالنساء حتى أصبح عادة له ، وهذا لا يكون إلا مِن عِشْقٍ بقلبه ، وهو نوع من الأمراض النفسية يُحتاج معه إلى علاج إذا وصل إلى درجة معينة . ولذلك قالت العرب في أمثالها " أغْزَلُ من الحُمَّى " ، قال ابن منظور في لسان العرب : " يريدون أنها معتادة للعليل متكررة عليه فكأنها عاشقة له متغزلة به " . فمِن ارتباط الغزل بالعشق المَرَضيّ تطور لاحقا - فيما يبدو - الاستعمالُ الشعبي للغزْلة التي تعني التصرفات الهوجاء التي هي أشبه بتصرفات المعاتيه أو المجانين .
ولم يلتفت الناس إلا إلى النوع المعتاد من الهياط ، وهو ما يمكن تسميته "الهياط الاجتماعي" الذي يتعلق بجوانب لها صلة بالظهور والشهرة ؛ كالفخر ، والمديح ، والاحتفاء والترحيب ، والضيافة ، والأفراح ونحو ذلك . لكنهم غفلوا عن نوع من الهياط أشد خطرا وأخفى أثرا هو ما أسميه "الهياط الروحي" ، كما نجده في مناسبات الصوفية من احتفالات الموالد وجلسات الذكر واحتفالات نقل وتلقي ما يزعمونه من الآثار النبوية من شعر أو ملابس أو عصا ونحو ذلك .
"المهايط الاجتماعي" يشعر شعورا واعيا بنقص في قيمته الذاتية ، فيحاول لاشعوريا تعويضه بالمبالغة ، سواء في صورة تهريجية أم جدية . وحين يكون الشعور بالنقص عموميا أو له انتشار جماعي يكون الهياط ظاهرة جماعية ؛ كما في هياط الأفراح والأمداح ، والضيافة ، وتقليد رموز القبيلة مناصبهم الاجتماعية ونحو ذلك .
هذا "التعويض اللاشعوري" رخيص في الميزان من حيث القيمتين العقلية والاجتماعية ؛ فليس له رصيد عقلي يعطي الفكرة المهايطية منطقيتها ، وليس له رصيد من القيم الثقافية يمنح السلوك المهايطي احترامه ومقبوليته الاجتماعية ، لذلك هو سلوك مغشوش مزيف ، ممارستُه خداع اجتماعي ، وقبوله نوع من النفاق الاجتماعي ، ولذلك هو مرض ثقافي اجتماعي مشترك بين من يمارسه ومن يقبله ، ويتحمل وزره وآثاره الطرفان ؛ المرسِل والمستقبِل .
وعلاقة السلوك بمقاصد الموقف حسبما تحدده منظومة القيم الثقافية العليا المتفق عليها في المجتمع هي التي تحكم على السلوك بأنها هياط أو لا ؛ فلكل موقف اجتماعي مقاصده سواء كانت من قبيل الضروريات أم الحاجيات أم الكماليات ، فإذا تطابق السلوك مع درجة مقاصد الموقف التي تحددها قيم الثقافة كان مستقيما ، وإذا زاد عن تلك الدرجة دخل في منطقة الهياط الذي يتفاوت حسب الغلو في الابتعاد عن مستوى المقاصد والقيم المتفق عليها اجتماعيا . وله أمثلة كثيرة ومتنوعة ؛ كالفخر بالقبيلة بما يسلب القبيلة المنافسة أو القبائل الأخرى فضائلها ، ومدح الشخص بأنه أكرم إنسان أو هو الأشجع أو الأسود ( من السيادة ) أو الأعلم ... ، وذبْح ما يفوق الحاجة من النَعَم في مناسبات الأفراح والاحتفاء والتشريف ، وشقّ أكياس البن والهيل أمام الضيف احتفاء وتكريما ، وإهانة النفس أمام الآخَر ليقبل هديته أو كرامته ...إلخ صور السلوك التي تخالف المقاصد والقيم التي يقررها الدين ويتعلمها كل أفراد المجتمع في المساجد والبيوت والمدارس والإعلام الرسمي ، ولكن هناك قنوات اجتماعية أخرى تقوم بوظيفة مضادة لما يتلقنه الأفراد رسميا ، فتجد فيها سلوكيات الهياط بيئة للنمو والتطور ، مسببةً شرخا في الثقافة وازدواجية في التربية بين الضمير والسلوك .
إن المهايط ينهج في تفكيره وسلوكه هذا الأسلوب المزيف الرخيص لأنه يحقق له المكانة بأقل كلفة اجتماعية ممكنة ؛ فهو يرى أن المكانة الاجتماعية - بما تتضمنه من احترام وقبول وتأثير - تتطلب الاعتقاد بتلك القيم والثبات عليها ومجاهدة النفس للتطبع عليها ومنعها من الخروج عنها ، وهذا منهج مكلف نفسيا في تصور الشخص المهايط ، لذلك يحاول تحقيق تلك المكانة التي يتمناها ويفتقدها من طريق مختصر وبأقل كلفة نفسية واجتماعية ، ويظن أنه يستطيع خداع المجتمع وإقناعه بتسويق ذاته بهذه الطريقة الزائفة ، والحقيقة أنه مكشوف ، مهما لقي قبولا زائفا يتمثل في النفاق الاجتماعي من بعض الشرائح المتمصلحة من هذه الشراكة الفاسدة . ولذلك يتأثر الناس بجمال السلوك الحقيقي ويعبّرون عنه بحب وصدق وكأنهم يغضبون له ويغارون عليه من انتهاك السلوك المزيف ( الهياط ) لحماه واغتصابه لحقوقه ، فاستمعْ مثلا إلى الشاعر الكبير عيضة بن طوير حين مدح أحدهم بالجود الحقيقي ، الجود الذي يولّده العقل السليم والخلق المستقيم ، فهو كالغرسة الطيبة في التربة الطيبة والظلال الوارفة ، ولا ينقطع عنها الماء ، فلا تزال يانعة بأطيب الزهر والثمر . أو هو كالجبال الشُم في صلابتها وثباتها وحمايتها لمن يعيش في جنابها ، مشيرا في طي كلامه إلى ذم الجود الزائف المصطنع الذي تولّده الغزلة ، أي ليس له رصيد حقيقي من الأخلاق الصادقة والسلوك الثابت :
النجادَى عند ابو عبدالله بعد القدْر ميْتْ
عاقلٍ جوّاد ما بهْ لا جنون ولا غزالْ
وانا با امثّل غروسٍ مستظلةْ في دلَعْ ما
ما نصيت إلا جبال اعتزّ مني شانها
هذا الهياط الاجتماعي العام يماثله هياط خاص بالجانب الروحي ، وله بعد ذلك وجهه الاجتماعي أيضا ؛ فالصوفي الزائف يشعر بنقص في علمه بالله وبشريعته ، كما يشعر بنقص في استقامته وإيمانه ، لكنه بدل أن يسعى لتكوين الإرادة الصادقة القوية لتطوير ذاته وإصلاح نفسه بالطريقة الصحيحة ( وهي اكتساب العلم الشرعي الصحيح ، وإصلاح السلوك بالحفاظ على المأمورات واجتناب المنهيات ) نجده يسعى في خداع الذات والمجتمع بممارسة الهياط الروحي ، ظانًا أنه يختصر الطريق إلى رضا الله واكتساب القبول الاجتماعي ، فيحيي الموالد المزعومة ، ويتغنى بالأذكار المبتدعة ، ويتمايل ويتراقص ويتواجد ( الوَجْد : الشوق الإلاهي ، في اعتقادهم ) وبعضهم يؤذي نفسه بالضرب والحرق والطعن ، وكأنه يقول لله : ها أنا يارب أهين نفسي لك وأعذبها من أجلك ، فكفى بهذا دليلا على حبي لك وشوقي إليك فاغفر لي وقرّبني منك ! بل كبارهم ممن قضى عمرا طويلا في هذا الحمق والخبال يصرح بأن الله قد أسقط عنه التكاليف وتجاوز له عن المحرمات ؛ فصار ملك الحسنات يكتب وملك السيئات ممنوعا من الكتابة !! ويعتقدون أنهم قد وصلوا إلى رضا الله في حين أن غيرهم ما زال في أول الطريق ؛ فعليه أن يقف عند حدود الشريعة لأنه لم يصل بعدُ !!
والصوفي الزائف يمارس بهياطه هذا نوعين من الخداع :
- خداع الذات ؛ ليغطي على انحطاط ذاته علما وعملا .
- خداع المجتمع ؛ ليغطي على انحطاط مكانته الاجتماعية ، ولينال المنزلة العالية بطريقة رخيصة زائفة لا تستلزم التكاليف المطلوبة لاكتساب العلم الصحيح والسلوك الصادق المستقيم . ولذلك يحرص كبار الصوفية وقادتهم على إقامة هذه المناسبات والطقوس من موالد وجلسات ذكر وأناشيد وابتهالات ...إلخ لأنهم ينالون بها المكانة الاجتماعية من احترام وقيادة وتأثير ، ويحشدون عن طريقها الأتباع الحمقى للاستعانة بهم في الخصومات ، ويشكّلون عبرها التنظيمات ، ويحصّلون من خلالها الشهوات ، ويساومون بها أصحاب السلطات . وهنا يكون الهياط الصوفي قد تطور من وظيفته الروحية إلى وظيفة اجتماعية وسياسية ، وحينئذ يكون قد تحول إلى مذهب اعتقادي وجماعة سياسية ، "يتهذب" فيه الهياط الروحي ويُوجّه لغايات اجتماعية وسياسية خفية يدركها القادة الماكرون ولا يعلم عنها الأتباع الحمقى إلا أنها طقوس تقرب من الله وتُنال بها شفاعة رسول الله !! بطريقة سهلة وممتعة !!
إن المهايط ( سواء كان الاجتماعي العام أم الروحي الخاص ) يشعر بغبطة كبيرة من ذاته ، وبغبطة أكبر حين يكون ممارسا لهياطه ، ولذلك تراه أشرس ما يكون حين تواجهه بنصح أو نقد وهو متلبس بهياطه ؛ لأنه يشعر بتهديد في وجوده ! فهو لا يشعر بقيمته الاجتماعية أو الروحية إلا حينما يمارس هياطه المعتاد ، وبدونه يَرجع إليه - ولو قليلا - وعيُه بخسته اجتماعيا أو روحيا ، فهَدْمُ هذا الهياط يمزّق عنه شعورَه اللاواعي بسموّه وغبطته ، ويعيد إليه شعورَه الواعي بانحطاطه الذاتي والروحي والاجتماعي ، في حين أنه يستنفر كل طاقاته العقلية والسلوكية لتزييف هذا الشعور الصادق الواعي مخادعا ذاته ومجتمعه ليعيش حالة السمو الزائف والقيمة المغشوشة .
1 comment
1 ping
ابو صالح
05/11/2019 at 12:35 م[3] Link to this comment
مع حترامي لرأي الكاتب في الربط بين ما يقوم به اتباع الفرقة الصوفية والممارسات الاجتماعية الفرق شاسع
الصوفية تنطلق من معتقد ديني بحت مثلها مثل الكثير من المعتقدات الاخرى في كثير من الفرق ؟؟