حالة عجيبة تعترينا، منذ فترة طويلة؛ لكنّها استأسدت علينا،ولم نعُد نجد للخلاص منها وسيلة!
وقد انتهزت شياطين الإنس والجنّ الفرصة، فوسوست، ونفخت سمومها، لتزيد في قلوبنا الغصّة!
كلّ القصّة أنّنا نشاهد ليل نهار، على الفضائيات وبقية وسائل التواصل الاجتماعي، جملة من الأخبار، يشيب منها الولدان، وتدمع لها العينان، ويعجز لفظاعتها اللسان؛ وتغشانا جرّاءها الحيرة، فينتهك قلعةُ توحيدنا التشكيك، وتستنهضنا الغيرة، لكنّ أوصالنا قد بترها التردّد والتفكيك!
رأينا الأطفال يذبحون، والشيوخ يعذّبون ويقتّلون، ولا يُحفظ للنساء أي ستر، وتصير أمنية الواحدة منهنّ لحد أو قبر!! وبينما تلفنا قلة الحيلة، ويخنقنا الضعف، يدور في أذهانناهذا السؤال المخيف: (لماذا يا رب؟ أين الحكمة يا الله؟)، ثم تمتد يد المستنكر علينا، ويوقظنا بكلماته: ( أفي الله شك؟!)، فننتبه ونجيب: ( كلا، أبداً، حاشا لله، قُيّوم السموات والأرض)…
لكنّنا نريد- يا إخوتي- أن تطمئنّ قلوبنا، وتشفى من شكّها صدورنا، وتنزع الريبة من عقولنا، فكيف السبيل إلى مطلبنا؟ هاتوا برهانكم وأنقذونا من دوّامتنا!!
وكيف نُقنِع من وصل بهم الأمر إلى التشكيك بربّنا وخالقنا، بسبب عدم إداركهم للحكمة مما يجري لنا ولأمّتنا؟!
الموقف- قرّاءنا الكرام- ليس يسيراً، والخوض فيه سيكون عسيراً، لكنّ الواجب يقتضي أن نوغل فيه برفق وروية، وأثارة من علم ربّاني ينجي من الضلالة، ويقي من الحور بعد الكور…
أحبّ ان أبدأ بقصة قصيرة تقرّب المقصود، وتسهّل علينا تحليل عناصر القضية…
ذهب رجل إلى الحلاق ليقصّ شعر رأسه، ويهذّب لحيته، وما إن بدأ الحلاق بمزاولة عمله، حتى صار ينتقل من حديث إلى حديث، ومن موضوع إلى موضوع، ووصل إلى الكلام عن وجود الله تعالى.
قال الحلاق: ( أنا لا أؤمن بوجود الله!)
استفهمه الزبون: ( ولماذا تقول ذلك؟!)
أجاب الحلاق: ( يكفي أن تخرج إلى الشارع وتراقب الناس، لتدرك أنّ الله غير موجود!! قل لي: إذا كان الله موجوداً، فلماذا يسمح بهذه الأعداد الغفيرة من الأطفال المشردين والمقهورين؟! ولماذا ترى أناساً مرضى، وشيوخاً معذّبين ؟! أنا لا أتصوّر كيف يسمح إله بمثل هذه الآلام والأوجاع!!)
فكّر الزبون للحظات، ثم لاذ بصمت عميق، ولم يردّ على الحلاق، حتى لا يحتد النقاش، ويخرج الأمر عن السيطرة، ويصل إلى ما لا تحمد عقباه!
وبعد ان أنهى الحلاق عمله وأخذ حسابه، خرج الزبون من المحل، فشاهد في الشارع رجلاً طويل شعر الرأس كأنه ليفة، كثّ اللحية، قذر المنظر، أشعث أغبر، فرجع من فوره إلى صالون الحلاقة وقال لصاحبه وهو يشدّه إلى الخارج: ( هل تعلم أنه لا يوجد حلاق أبداً؟!)، أجابه الحلاق متعجباً: ( كيف تقول ذلك؟! وأنا… ماذا أفعل هنا؟! ألم أحلق لك قبل دقائق؟!)، قال الزبون: ( لو كان هناك حلاق، لما وجدت هذا الرجل بشع الهيئة وأمثاله يتجولون في الطرقات!!)، علّق الحلاق على كلام الزبون موضّحاً: ( بل الحلاقون موجودون، وإنما حدث مثل الذي رأيته عندما لا يأتي هؤلاء إليّ لكي أحلق لهم!)، هزّ الزبون رأسه واستأنف الحديث:
( وهذا التفسير ينطبق تماماً على كلامك المتعلق بوجود الله؛ فالله تعالى موجود، ولكن يحدث الذي ذكرتَه من المآسي عندما يعرض الناس عن ربّهم، ولا يهتدون بتعاليمه في حياتهم، ويعارضون مشيئته، ويحيدون عن سبيله، ولا يكون اللجوء إليه بالدعاء فحسب، بل يكون بحسن الظنّ وجميل التوكل، والاطمئنان لمقاديره في خلقه!!).
قرّاءنا الأفاضل، لقد ثبت لدينا بالدليل القاطع، أنّه لا بدّ للصنعة من صانع…فمن رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الآيات المحكمة في نفسه وجسده، وفي كلّ شيئ حوله، أقرّ دون أدنى شك أنّ المبنيّ يحتاج إلى بانٍ…لكنّ العقل يتطلّع دائماً لمعرفة جميع حكم الله في كونه، فإذا لم يتبيّن له، وقف متحيّراً متسائلاً، ولربما نفث الشيطان في روعه، وأدخله مداخل التشكيك بربّه!!
فإذا شرد أحدهم عن الطريق القويم، من أين علينا أن نبدأ التقويم؟!
إنّ الله تعالى يريد اختبارنا ليعرف أسرارنا ويمتحن إيماننا…وبالتوكل- وهو صنو الإيمان- يستقرّ إسلامنا، وتسكن أرواحنا، وتطمئنّ قلوبنا…
فالتوكل هو نفي الشكوك، والتفويض إلى ملك الملوك…وهو الثقة بالله، والسكون إليه، والاسترسال مع الله وفق ما يريد…
سئل أحد التابعين عن التوكل، فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة أخرى!!!
وسئل آخر: متى يكون الرجل متوكّلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً…
خلاصة القضية- إخوتي وأخواتي- أنّ الله تعالى يمهل حتى كأنّه يهمل، فنرى يد البغاة مطلقة كأنه لا مانع، ثم يأخذ أخذ جبّار، وإنّما كان الإمهال ليبلو صبر الصابر، وليملي للظالم، فيثبّت هذا على صبره، ويحاسب ذاك على قبيح فعله!
ورحم الله الإمام الحسن البصري، فهو القائل: ( كان الناس يتساوون في النّعم، فإذا نزل البلاء تباينوا)…
إنّ المطلوب منّا أن نتباين ونتمايز بقوة إيماننا، وعظيم توكلنا، وحسن ظنّنا واطمئناننا لأقدار الله فينا،( وأن نُعمِل عقولنا على قدر قوّتنا في مطالعة ما يظهر لنا من الحكم فإنّه سيورثنا الدّهَش، ونسلّم فيما يخفى علينا، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يغالب نور الشمس)-ابن الجوزي. وحسبنا بعد ذلك قوله جلّ من قائل: ( إنّ الله يحبّ المتوكلين) – آل عمران:159.