وسط حنين الكلمات ، وأنين العبارات ، يقف الإنسان وقفة وفاء لصديقه ، يذكر تفاصيل لحظات الحياة الجميلة ، ويرسم بفرشاة الفراق تلك المعاني النبيلة التي غرسها فيه ، إنها الصداقة التي تفوق القرابة أثراً وقوة ، في السطور الآتية ، الدكتور صالح بن حمد التويجري الأمين العام للمنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر يقف وفاء لينعى الوفاء ، في صديقه القريب المهندس عبدالعزيز بن عبدالله الشبانة .. نترككم مع حنين هذه السطور :
الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء هو الطريق لكل البشر، وهي سنة الحياة ولا تبديل لأمر الله الذي بيده القضاء والقدر، ولا شك أن الفراق مؤلم وعميق الأثر، وكانت رحمة الخالق بعباده أن جعل الثواب والأجر لمن صبر، ويكون الفراق أكثر إيلاما عندما يكون للمفارق منزلة خاصة ومكانة عميقة وتشغل ساحة كبيرة في حياتك، وذلك ما شعرت به عندما تلقيت خبر وفاة المهندس/ عبد العزيز بن عبد الله الشبانة يوم الثلاثاء 26 من ذي الحجة 1440.
فالفقيد تربطني به علاقة قربى فهو ابن أختي ووالده ابن عمتي، غير أن أبا عبدالله كان له مكانة خاصة في حياتي بدأت منذ طفولتنا حيث أن أعمارنا متقاربة, وامتد بنا مشوار الحياة مرحلة بعد أخرى تتوطد فيها عرى الأخوة والصداقة وتتعمق المحبة , فبحكم أنه يكبرني بقليل إلا أنني كنت أرى فيه ذلك الشاب الطموح والمكافح, نضج في وقت مبكر , صاحب كلمة ومروءة , محبا للخير والإحسان , واصلا للرحم , يحظى بإعجاب واحترام كل من يعرفه أو تعامل معه .ثم أراد الله أن تجمعنا حياة الغربة وهي المعروفة عند أساتذة علم النفس وعلم الاجتماع بأنها الأقوى تأثيرا في حياة الإنسان وبناء شخصيته ورسم مساره في الحياة .
بدأت تلك المرحلة المؤثرة في إحدى ضواحي مدينة سان دييغو بأمريكا , فقد سبقني الفقيد – طيب الله ثراه – إليها في بعثة دراسية , فلحقت به بعد تخرجي من الثانوية مبتعثا إلى هناك , وكنت صغير السن أعيش في مجتمع محدود الإمكانات – في حينها – من حيث شؤون الحياة الخاصة والحياة العامة , فانتقلت إلى مجتمع أكثر تقدما تقنيا وخدميا , وأكثر عددا , لا أفهم من لغته إلا القليل , ولا أعرف عن عاداته وتقاليده , ولا نظام حياته , فكان الأمر بالنسبة لي تحديا , ينتابني شعور بالخوف من الفشل في مشواري الدراسي , فانطلقت بحماس الشباب ومتوكلا على الله متوجها إلى حيث مقر ابتعاثي, وإذا بابن أختي ورفيق طفولتي وأوائل سنين شبابي في انتظاري يأخذني بالأحضان , ويبدد عني أول درجات الخوف , وقد هيأ لي سكنا معه , وصحبني الى الجامعة فاستكملنا الإجراءات المطلوبة , وكان هذا مصدر اطمئنان لوالدي ووالدتي – رحمهما الله – اللذين كانا أكثر مني تخوفا وقلقا على ابنهم اليافع الذي أصبحت تفصله عنهم المسافات والمحيطات.
وبدأت في دراسة اللغة الإنجليزية التي لم أكن أعرف منها إلا اليسير، فكان هو في حينها المدرس الخصوصي، في حرص شديد على أن أكتسب اللغة الأجنبية وأتقنها فهي الجسر الذي أعبر منه الى مواد الدراسة وكتب العلم، فكان الفقيد – رحمه الله – بالنسبة لي حينها، حاضنا ومعلما وموجها، وكان مصدر استقرار لي في حياة الغربة، وجدت فيه الأخ والصديق والمعلم.
ومع مرور الأيام , وجدت الرجل مركز استقبال وإرشاد لكل من يصل إلى الجامعة التي يدرس بها من الطلبة السعوديين والعرب , يقدم خدماته للجميع في أريحية متناهية وبكرم غير محدود بالرغم من محدودية أوضاعنا المالية في ذلك الوقت , فكان يبذل وقته وماله , ويعطي نصائحه للجميع بإخلاص ومحبة , وكأنه المسؤول عن حياة الجميع , وألحظ علامات السرور على محياه عندما يحقق خدمة موفقة لأحد , وأرى الحزن والتألم يظهر عليه عند تعثر أي من المبتعثين ’, فيضاعف هو الجهد لمساعدته مستفيدا من حسن علاقاته مع الجامعة ومع مسؤولي الخدمات الأخرى كالإسكان ورخص القيادة والفنادق والمستشفيات, وأجمل هذا بالقول بأنه – رحمه الله – كان بمثابة مؤسسة خيرية تطوعية لخدمة الطلاب المبتعثين .
ومن ثم عدنا من البعثة، وقد حققنا بفضل الله وتوفيقه مشروعنا العلمي، وبدأنا حياتنا العملية كلا في تخصصه ومجاله، وكوَّنا عائلتين. فجاء يوم انتابني فيه الحزن والقلق عنما علمت بأنه مصاب بمرض عضال، وبدأ وضعه الصحي في تدني، وأنا أتابع حالته، وكأنني من يعاني من المرض نفسه، حتى حان وقت رحيله.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل ما أصابه تكفيرا وتمحيصا، وأن يجعل الفردوس الأعلى منزلته، وأن يلهمنا الصبر ويعظم لنا الأجر على فقده، وكل ذويه، وكل من عرفه فأحبه لكرمه وطيب معشره، ونسأل الله أن يجمعنا به في عليين. وإنا لفراقك أخي وابن أختي، ومعلمي وصديقي، لمحزونون، ولكننا مؤمنين بقضاء الله وقدره، ولا نقول إلا كما يقول الصابرون.
” إنا لله وإنا إليه راجعون “.
الدكتور صالح بن حمد التويجري
الأمين العام للمنظمة العربية للهلال الأحمر والصليب الأحمر