في مكان ما من تهامة …. حطت مجموعة من (امنجوع) رحالهم في أرض خضراء عذراء لم يمسسها بشر يتوسطها وادٍ كبير نمت بأطرافه أشجار السدر وشيء من الزهر
بطحاؤه ناعمة طرية ، وتربته كالكحل المنثور ، يشقه غيل رقراق ، مياهه عذبة صافية ، تلمع فيه أشعة الشمس كلمعان السيوف ، فيرى ظاهره من باطنه يخيلُ للآتين إليه أنه صرح ممرد من قوارير ، نمت على صخوره الملساء طحالب مخملية خضراء ، وتتمايل على ضفتيه حشائش وشجيرات تحركها النسمات كيف تشاء .
وادٍ يزخر بالحياة ، ويعج بالأحياء .
فتسمع صوت خرير الماء المنحدر من بين الصخور ويعاسيب الماء تحط هنا وهناك ،و ترى أسراب القطا المعششة بالقرب منه وطيور السُمان وحشرات مختلف ألوانها وأشكالها ترتاد ذلك المكان .
بالقرب منه سدرة عتيقة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، نُقش على جذعها الخشبي تجاعيد السنين ، وتظهر عليها نتوءات وحفر اتخذتها الحشرات بيوتاً ومساكن لها ، وتلوح أعشاش الطيور في قمتها كحصون اليمن شموخاً ومتانة ، حين تهب الرياح تنحني كأم تلتقط طفلها وحين تسكن تبدو خاشعة كشيخ في محرابه يلهج بالتسبيح
في وقت الضحى يرِد الرعيان بأغنامهم ومواشيهم لتشرب وترتوي فيمتلئ الوادي بأصوات الثغاء وصفير الرعاة .
من هناك وهناك وبين تلك الصور الرائعة تلتقط العين منظراً لطفلة جميلة تشبه براعم السكب
تلحق بأبيها ، وتطارد البهم ، تحملها بصعوبة وتجبرها على الشرب .
حليمة طفلةٌ زهراء ، حمراء ، خصلات شعرها تظلل وجنتيها الزهراوتين وعينيها اللامعتين ،بعد وفاة أمها اعتادت المجيء مع والدها كل يوم ’تطارد الفراشات البيضاء ،وتقفز خلف الجنادب الهاربة ،تقترب بخفة من الطيور التي تحط على ظهور الماشية ،وتجمع في يديها وريقات السدر ,ترمي بها في المياة الجارية فتتسابق كزوارق صغيرة مبحرة .
وتجمع في ثوبها أزهار السكب فتنثرها بين يدي أبيها فيصنع لها عصابة صفراء تعتلي جبينها الصغير تلبسها تارةً وتضعها على رأسه تارة أخرى
كشفت عن ساقيها الصغيرين لتعبر الماء فغاصت أقدامها واختفت حذائها في التراب ،بكت واستغاثت بوالدها الذي حاول جاهدا العثور على حذائها دون جدوى ثم عاد ليلحق بالماشية حاملا حليمة على كتفيه وقد ملأ صوت بكائها الوادي
مرت الأيام والأسابيع وتوالت السنون واحدة تلو الأخرى ،نمت أشجار وماتت أزهار وكبرت حليمة فأصبحت فتاة فارعة الطول، بارعة الجمال ،لينة القوام تتهادى في مشيتها كأخواط الشيح ،يجري في وجهها ماء الشباب ،وتخجل الشمس من ضحكتها ،تخبيء تحت مكمها الأصفر جديلتين من الشعر الطويل وتضع زماماً في أنفها كمنارة السفن يلمع من بعيد وتتلفع برداءٍ أحمر يغطي صدرها وظهرها من عين الشمس وألسنة الرياح .
وظلت حليمة على عادتها القديمة ،ترعى مع والدها الماشية ، وتجلس تحت شجرة السدر تجمع حبات امجنى المتناثرة تحتها ,حتى يصدر الرعاء وحين تتأكد من خلو المكان تتقدم على استحياء وفي يديها حصيات صغيرة تداعب بها وجه الماء فتتحرك حلقاته كأساور من فضة ،وتنشر جدائلها السوداء لتغسلها كخيوط حريرية تسابق جدائل الماء.
تتحدث الي امغيل فيفيض خاطرها بالحنين الي أمها وتبوح برغبتها في رؤية والدها سعيداً طوال اليوم ،ثم تتباهى أمامه بقدرتها على حلب الشاة لوحدها .وعلى صنع السمن من حليب الأغنام ،وكيف تطحن على امطحنة وتخبز في اميفا
كل ذلك وهو ينصت لها بلهفة يتبسم حين تتبسم ويتجهم وجهه حين تتجهم .
وبين شروق الشمس وغروبها كل يوم نمت علاقة حب وطيدة بين حليمة وغيل الوادي ،فلا يكاد يراها قادمة حتى يفيض بنميره الصافي ويتهلل ماؤه فرحاً
وتُزهر الأرض تحت قدميها ، وتنثر هي على وجهه أخواط السيمران وزهور السكب
فيتحول الي ربيع .
وفي ليلة مقمرة نشر فيها البدر سناه على الأرض استيقظت حليمة على ثغاءٍ وجلبةٍ في حجية امبهم ، فخرجت ……
لتلتقي بثعبان أسود يتخطى أقدام الماشية ،واجهته ببسالة وقاتلته بشجاعة لكنه كان أسرع منها ،صرخت حليمة
فجفلت الماشية حول البيوت واختبأ القمر خلف الغيوم ،واستيقظ امغيل على تجاوب الرعيان ينعون حليمة ويدعون لوالدها بالصبر والعوض الجميل
فاهتزت اطرافه وتجمد جوفه من هول الخبر وسمع كل من في الوادي نحيبه و بكاءه ….
حال بينهما الموت ….
توقف امغيل عن الجريان ….
وغِيضَ الماء وتحولت ضفتيه الي شفاةٍ يابسة لاحراك بها ,وشاخت شجرة السدر وشابت أغصانها ,وتوقفت البلابل عن التغريد, وهاجرت طيور القطا وماتت اليعاسيب .
اما والدها المكلوم فقد لملم شتات قلبه واستعد للرحيل يتخطي بماشيتة أشلاء امغيل فيلمح شيئاً ملونا تحت التربة ينكث بعصاه الأرض فإذا هي حذاء حليمة الصغيرة , التقطها بسرعة نفض عنها التراب قبلها مراراً وضمها الي صدره وواصل المسير
كان وادي امغيل منجعاً من مناجع تهامة عسير
و مازال على خارطة المكان وفي ذاكرة الزمان وما قبر حليمة عنه ببعيد …..