كلّ واحدٍ منّا لا بد أن يكون قد مرّ بالكثير من تجارب الحياة والتأمل في هذا الكون الواسع، فسبحان الله منذو أيام حضرت عقد قران وانا في هذا المجلس وقد بدأ المأذون الشرعي، فتأملت بكلمة واحدة تستحل الفرج وبكلمة تركها، فكم هي عظيمة تلك الكلمة، فبكلمةٍ تدخلُ الإسلام، وبكلمةٍ تستحلُّ ما كنتَ ممنوعاً منه، محالاً بينك وبينه، وبكلمةٍ تصنعُ مجداً، وتشيدُ عزاً، وتدلُّ على مواقع الخيرٍ.
عن جابر في خطبة الوداع قال : قال ﷺ : «اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى».
فإنَّكم أخذْتموهن بأمانةِ الله"، أي: بعَهْدِه، "واستَحْلَلْتُم فُروجَهن بكلمةِ الله"، يعني بالكلمةِ نفْسَ العقد الَّذي نشَأَ مِن كلمتي إيجابٍ وقَبول مِن الولي والزوجِ،
فإنَّ الكلمة كانت وما زالت كبيرة الشأن، ضخمة الموقع، رفيعة المنزلة، ينتقلُ بها الإنسان مِن حالٍ إلى حال، ومِنْ واقعٍ إلى واقع، ومِنْ شأنٍ إلى شأن، فهي تبني وتهدم، وتسعد وتشقي، وترفع وتخفض وقس ذلك على الحياة وتعاملها ، وإذا تأملها متأملٌ رأى لها من التأثير والتدبير أحوالاً مدهشة، فكم أثارتْ مِن همم، ودلت على خيرات، وكم بنتْ مِن حضارات، لذلك كان حقيقاً على كل عاقل معرفةُ قدرها، وإدراكُ دورها، وحُسن استخدامها، وجديراً به الاهتمامُ بها، نعم هذه الكلمات علَّمتنا أنْ نقولَ الخير ونأمرَ به، وندلَّ عليه ونقترحَه، ونشيدَ به ونحرص على فعله لتستمر سفينة الحياة.
ولاتنسى وانت بحضور عقد القران بأن هناك ميثاق يهمس في أُذن العريس وفائدة للحضور ورسالة للجميع وخاصةً العريس الزوج نقول له:
أيها الزوج رفقا بها إنه الميثاق الغليظ
الميثاق الغليظ، كلمة ثقلها لا يعيها إلا عاقل، ميثاق يربط اثنان أمام الله، ويُعقد بينهما قران الزواج، والزواج ليس مجرد ورقة مكتوبة، فإن الشرع قد أعلى شأن هذه العلاقة وعظّم خطرها، قال تعالى: وَ”كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا”، أي عهدا وثيقا مؤكد تأكيدا، يصعب فكَّه، فالواجب على الزوج معاشرة زوجته بالمعروف وأداء حقوقها، ولا يجوز له هضم حقوقها أو تعريضها للأذى والإهانة، وعليه أن يكون حكيما فيعطي كل ذي حق حقه، كما لا يفوتنا أن ننبه أنه أيضا على الزوجة ما على الزوج، إولابد أن تتحلى بمحاسن الأخلاق وطيب عشرتها لزوجها.
لأن في قتنا هذا، نجد الكثير من الأزواج سرعان ما ينسون الفضل الذي كان بينهم، فتجدهم عندما يصلون إلى الطلاق ويقفون بأبواب المحاكم، يطلقون العنان للنفس الأمارة بالسوء ويتبعون خطوات الشيطان المفضية إلى الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، تجدهم يدخلون في حرب مفتوحة باليد واللسان وشهادة الزور والكيد للآخر وإفشاء الأسرار. لا يراعون للميثاق الغليظ قدسيته وحرمته. فالمؤمن أو المؤمنة يستحضر معاني الميثاق ولا يتحلل منه، فيتق الله عند التسريح، لا يظلم ولا يقبل الظلم، لا يكذب ولو كذب الطرف الآخر، ويدفع بالتي هي أحسن، ويراعي بحال الأولاد إن وجِدوا.
وهنا يدل على أنَّك في معاملتك لأهلك بالأسلوب الحسن؛ احترامًا لهذا الميثاقِ، تكونُ في حالِ قربٍ من الله وفي عبادة، ترجو منها ما ترجوه من التعبد إلى الله تعالى بأداء ما افترض، لو أنَّك استحضرت فيها صدق النِّيَّةَ، وابتغيتَ بها وجهَ اللهِ تعالى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}.
فهذه الآيات أسست لأعظم قاعدة تستقر بها المجتمعات وتحافظ على علاقات السلم بينها وبين بعضها البعض، وهي احترام المواثيق والعقود التي يتعاهد بها الناس بين بعضهم البعض، وجعل ذلك -أولاً- مبدَّىً على رابطة الدين نفسه، وثانيًا أنه جعل ذلك حكمًا شرعيًّا نافذًا وباقيًا ما دام القرآن الكريم فينا.
*همسة*
وَفاءُ العَهدِ من شِيَمِ الكرامِ
ونقضُ العَهدِ من شِيَمِ اللِّئَامِ
وعندي لا يُعَدُّ من السَّجايا
سِوَى حِفظِ المَوَدَّةِ والذِّمامِ
وما حُسنُ البِداءَةِ شرطُ حُبٍّ
ولكن شرطُهُ حسنُ الخِتامِ
وليسَ العهدُ ما ترعاهُ يوماً
ولكن ما رعَيتَ على الدَّوامِ

