في كتاب الكون المُترامي، يكمنُ سِرٌّ خفيٌّ لا يراه إلا صاحب البصيرة، سِرٌّ يحكمُ جريان النهر، وتناوب الليل والنهار، وارتفاعَ الروح وانخفاضها.
إنه "الميزان" الذي لم يكن يوماً ما مجرد أداة قياسٍ صامتة، بل هو أقدسُ ما أودع الله في خلقه. لقد كان الميزانُ –في جوهره الإلهي– ضمانةَ العدل والنظام، فتعهّدَ الخالقُ سبحانه بضبطه، وأمرنا بإقامته كما هو، إذ أن الطغيان فيه أو خسرانه يأتي من خلال التدخل في نظامه والعبث به.
إن الطغيانَ في الميزان ليس مجرد غشٍ في البيع والشراء، بل هو فسادٌ في فِطرة الوجود. إنه تلك الرغبةُ العميقة في تبديل سننَ الله بالنظم البشرية الناقصة. فتنشأ موازين خاصة، وزوايا مختلفة لقياس الحياة، ليصبح الإنسان كمن يُحاول ترويضَ عاصفةٍ بدلاً من الإبحار بمهارة عبرها.
كم مرةً حاولنا أن نُصلح ما أفسدناه ببرامجَ صارمة، فكانت النتيجةُ عكسيةً ومُحبطة؟ قد يقرر المرءُ بدايةَ مشوارٍ صحي، فيُفاجأ بأن وزنه يزداد، أو أن الأمراض انهالت عليه فجأةً. لماذا؟ لأننا نُحاول أن نُقِيمَ توازناً خارجياً بتجارب الآخرين أو نظريات الباحثين، بينما الميزانُ الداخليُّ يصرخُ ألماً واختلالاً. لقد نسينا أن لكل شيءٍ حولنا خيطاً دقيقاً يشدّهُ إلى مركزه: ميزانُ الأكل، وميزانُ النوم، وميزانُ القول والفعل…
إن جسد الإنسان، هذا الهيكلُ العجيب، هو أعظمُ جهازِ استشعارٍ خلقه الله. إنه يُرسل إلينا إشاراتٍ مُشفّرةً كالهمس: "أريدُ ملحاً..."، "أحتاجُ خضاراً..."، "توقَّفْ، لقد اكتفيت"وهكذا، إنها رسائلُ التوازن، همساتُ الفطرة، لكننا نعيشُ في ضجيجٍ مستمر، فنعزفُ عن الاستماع، ونُغمضُ أعيننا عن رؤية الوميض الذي يُشير إلى موضع الخلل. فإذا ما تجاهلنا تلك الرسائل، بدأ الميزانُ يميل، وتراكمت عليه المشاكلُ كغبار السنين.
ولكن، متى ما انزاح الركامُ، بدأ طريقُ العودةِ واضحاً. إن تصحيحَ الميزان ليس عمليةَ إضافةٍ، بل عمليةَ توقُّف عن العبث. إنه فنُّ الانسحاب التكتيكي نحو الذات لاستعادة التوازن المفقود.
ففي عالم الأكل المُتخم، يكونُ الصيامُ هو الهدنةَ المقدسة، اللحظةَ التي يتوقف فيها الجسدُ عن المعالجة ليعيد ضبط مصنعيته الذاتية. وفي ضوضاء الأفكار السريعة والطاقات المُهدرة، ينهضُ الصمتُ كأداةٍ لوزن الأفكار والحروف، ولضبط ميزانِ المنطق قبل أن يُصبح فوضى. وفي زحام العلاقات ومتطلبات الحياة، تُصبحُ الخلوةُ أو العزلةُ نافذةً نُطِلُّ منها على دواخلنا، لنستمعَ بوضوح إلى صدى الموازين الداخلية.
فعندما ينضبطُ هذا الميزانُ الداخليّ، ينعكسُ نورهُ على العالم الخارجي.
إن مهمتنا ليست في ضبط قوانين الكون، بل في أن نمنعَ أنفسنا من الطغيان عليها. الميزانُ هو مفتاحُ الحياة الهادئة، حيثُ تسكُنُ الحكمة، وحيثُ لا نحتاجُ إلى برامجَ مُعقّدة لإصلاحِ ما يُمكنُ أن يُصلحهُ الاستماعُ والامتثال. هو دعوةٌ دائمةٌ للعودة إلى الفطرة، والاعتراف بأن المقياسَ الأصدقَ قد وُضعَ سلفاً.

