تعيش الأسرة العربية اليوم واحدة من أعقد مراحل التحول في تاريخها الحديث. فبين الأصالة التي تربّت عليها الأجيال السابقة، وبين موجات الحداثة والتقنية التي اجتاحت تفاصيل الحياة، يقف البيت العربي في مفترق طرق يبحث فيه عن توازن بين الثبات والتطور.
في الماضي، كانت الأسرة مركز الاستقرار الاجتماعي ومصدر الهوية والانتماء، أما اليوم فقد تغيّرت أدوار أفرادها وتبدلت أولوياتهم. فالأب الذي كان رمز السلطة والقرار أصبح يشارك هذه الأدوار مع الأم التي لم تعد محصورة في نطاق المنزل، وقد باتت فاعلاً أساسياً في التعليم والاقتصاد والمجتمع. ومع هذا التحول، نشأت تحديات جديدة تمس علاقة الأبوين بالأبناء وتؤثر في بنية الانتماء العائلي.
تربية الأبناء أصبحت أكثر تعقيداً في عصر التقنية والذكاء الاصطناعي. فالأطفال اليوم يتلقون معارفهم من الشاشات قبل الكبار، ويكوّنون قناعاتهم من العالم الرقمي أكثر من الأسرة نفسها. لم تعد التوجيهات المباشرة كافية، وقد صار المطلوب أن يتحول البيت إلى مساحة حوار ووعي رقمي، تُزرع فيها القيم لا بالأوامر بل بالقدوة والمشاركة.
وفي زحمة الحياة الحديثة، يظهر أثر غياب أحد الأبوين واضحاً على نفسية الأبناء. فالأبناء الذين يكبرون في فراغ عاطفي يبحثون عن بدائل للدفء والاحتواء في أماكن أخرى، أحياناً في العالم الافتراضي أو بين مجموعات لا تشاركهم ذات القيم. غياب الأب أو الأم لم يعد مسألة جسدية فحسب،و قد يكون حضوراً شكلياً وغياباً شعورياً لا يقلّ أثراً عن الفقد الحقيقي.
أما الزواج الحديث فقد تغيّر هو الآخر. لم يعد قائماً فقط على العاطفة أو الواجب الاجتماعي، انما دخلت فيه حسابات المصلحة والواقعية، من الظروف الاقتصادية إلى التوقعات الفردية العالية. ومع ذلك، لا تزال قيم المودة والرحمة قادرة على حفظ هذا الرباط إذا ما وُجد الوعي الحقيقي لدى الطرفين بأن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، انما شراكة تنمو بالنضج والتفاهم.
ومن أبرز الظواهر الجديدة في مجتمعاتنا ما يُعرف بـ “الطلاق الصامت”؛ حيث يعيش الزوجان تحت سقف واحد لكنّ المسافة بينهما تتسع يوماً بعد يوم. لا خلافات صريحة، ولا حب حقيقي. فقط حياة آلية بلا دفء أو مشاركة، يدفع ثمنها الطرفان ومعهما الأبناء الذين يتعلمون أن العيش دون تواصل عاطفي أمر طبيعي.
إن الأسرة العربية اليوم أمام تحدٍّ حقيقي: كيف تحافظ على أصالتها في عالم يتغير كل يوم؟ الجواب لا يكمن في مقاومة الحداثة ولا في الذوبان فيها، انما في بناء وعي أسري جديد، يوازن بين التكنولوجيا والروح، بين الحرية والمسؤولية، وبين الفرد والأسرة. فحين تستعيد الأسرة دورها في التربية الوجدانية والقيمية، تستعيد المجتمعات العربية توازنها من جديد.
سلطان العبدالله