نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نحن. فما تلتقطه أعيننا ليس الحقيقة المطلقة، بل صورة يصوغها وعينا استناداً إلى ما نحمله من تصورات وخبرات ومشاعر. فالعين لها دور نقل إشاراتٍ يفسرها العقل، ليعيد تركيبها وفق ذاكرته وقناعاته، ثم ليصنع منها واقعًا خاصًا به.
بذلك، يصبح ما نراه هو انعكاس لداخلنا المتجسد في العالم من حولنا. وهنا يتجلى دور الخيال.
فالخيال هو تلك القوة الخفية التي تمنحنا القدرة على إدراك ما وراء المظاهر، وفهم ما لم نره بعد، وصياغة صورة أعمق للوجود.
الخيال جسراً بين الإدراك والوعي، ووسيلة لفهم ما لا تدركه الحواس.
والإنسان لا يستطيع أن يتعامل مع شيء لم يتخيله مسبقًا، فكل إدراك يبدأ بصورة داخلية قبل أن يصبح وعيًا خارجيًا. وبدون هذا التصور المسبق، تمر الأشياء أمامنا كما لو لم تكن موجودة. إنه هو الذي يربط بين الممكن والمجهول، بين الواقع والحلم، وهو ما يجعلنا نبتكر ونفهم ونتطور. فبقدر ما تتسع مساحة الخيال، يتسع أفق الرؤية، لتصبح الحياة أكثر ثراءً وعمقًا.
ولكن الخيال، مثل أي قوة عظيمة، يحمل وجهين متضادين : وجهًا من نور، وآخر من الظلام. فحين ينفلت من وعي الإنسان، وإدارته المبنية على المعرفة والاتصال بالله؛ يتحول من أداة للفهم إلى مصدرٍ للوهم. فكثير من المشاكل تبدأ من تصوراتٍ خاطئة تتضخم في خيالٍ غير منضبط. "فكلمة بسيطة يسمعها أحدهم، تتحول في ذهنه إلى تأويل، ثم إلى شك، ثم إلى عداوة مكتملة التفاصيل، رغم أن الواقع لم يرى من ذلك شيء". فالخيال هنا لا يخلق إبداعًا، بل يصنع مسرحًا داخليًا للأوهام والصراعات التي لا وجود لها إلا في ذهن صاحبها. ومع تكرار التفكير فيها، تتحول تلك التصورات إلى واقع نفسي ضاغط، يغيّر السلوك والمشاعر وربما المصير.
وإذا لم يحسن الإنسان استخدام خياله، فإن هذه الطاقة الهائلة قد تأخذ مسارًا مظلمًا، يُدخل العقل في حوارات وهمية مع كيانات ظلامية من صنع أفكاره، فيغذي الخوف والشك والانتقام في داخله. هكذا يصبح الخيال سجنًا داخليًا، يملؤه الإنسان بمخاوفه ووساوسه وأوهامه، حتى يختلط عليه ما هو حقيقي بما هو متخيل.
لذلك، فإن ضبط الخيال لا يكون بالعقل وحده، بل بنقاء القلب واتصاله بالله. فالخيال لكي يعمل في مسار النور يحتاج إلى قلبٍ طاهرٍ متصلٍ بخالقه، خالٍ من التلوثات والظنون والهموم والمخاوف. كلما ازداد القلب صفاءً واتصالًا بأسماء الله وصفاته ومحبته، امتد الخيال نحو البصيرة، ورأى الحقائق التي لا تُرى بالعين. عندها يصبح الخيال نافذةً على النور، لا على الظلام؛ أداةً لرؤية أعمق، لا لهروبٍ من الواقع.
إن الخيال ليس نقيضًا للواقع، بل هو وسيلة لفهمه. هو البصيرة التي تجعلنا نرى المعنى من وراء الصورة، والجوهر من وراء المظهر.
إن الرؤية الحقيقية لا تتم بالعين وحدها، بل بالعقل والقلب والخيال معًا. فكل فكرة عظيمة، وكل اختراع، وكل فهم جديد، بدأ أولًا في صورةٍ متخيلةٍ داخل عقلٍ آمن بإمكانيته، فرأى ما لم يُرَى.
وفي النهاية، فإن الخيال هو المِرآة التي نطل منها على ذواتنا قبل أن نطل بها على العالم. هو القوّة التي يمكن أن تبني أو تهدم، تنير أو تظلم، حسب نقاء المصدر الذي تنبع منه. فمن يوجّه خياله بنور الإيمان وصفاء القلب يرى ما وراء الحجاب، ويقترب من الحقيقة، أما من يتركه يتغذّى على الظنون والمخاوف، فإنه يغوص في عتمةٍ لا يراها إلا هو. لذا، فإن الخيال امتحان دائم بين النور والظلام، بين البصيرة والوهم، وبين الإنسان ونفسه.