إنها الوعاء الذي تُسكب فيه المعرفة، والمرآة التي تنعكس فيها حضارة الإنسان وتاريخه ووعيه. فاللغة ليست كلماتٍ فحسب، أو مجرّد وسيلة للتخاطب أو أداة للتفاهم بين البشر، بل هي فكرٌ وعقلٌ ووجدان. إنها هي التي تربط الإنسان بإنسانيّته، هي الجسر الذي نعبر به من داخلنا إلى العالم، ومن الماضي إلى المستقبل، ومن الفرد إلى الجماعة والعكس.
حين نتأمل مسيرة الحضارات، نرى أن نهوضها أو اندثارها مرهونٌ بلغتها. وإن أولى علامات ضعف أي أمة هو اهتزاز لغتها، لأنها هي الذاكرة الجماعية التي تحفظ القيم والمعارف والتجارب. فإذا تصدعت اللغة، تلاشى الفكر، وإذا بَهُتَت مفرداتها خَبَت ملامح الوعي، وإن أردت أن تهدم أمةً أو تطمس حضارتها، فابدأ بلغتها؛ فإنك إن نزعت لسانها، نزعت كيانها.
إن اللغة ليست أداة تزيين، بل أداة تفكير. والإنسان لا يستطيع أن يفكر خارج لغة، لأن الكلمات هي المفاتيح التي يفتح بها أبواب المعاني في عقله. وكلما اتسع قاموس المرء، اتسعت رؤيته للعالم، وازدادت قدرته على الفهم والتعبير والاستيعاب. أما من ضاقت لغته، فإنه في سجنٍ صامت، يشعر بالكثير ويعجز عن التعبير، ثم يتحول هذا العجز إلى توترٍ أو جفاءٍ أو انفجار. والعاجز عن التعبير هو في الحقيقة عاجز عن التواصل مع ذاته قبل أن يعجز عن التواصل مع الآخرين.
وهنا يكمن الخطر الذي يهددنا في هذا العصر الحديث، بكل ما فيه من سرعةٍ وضجيجٍ وتقنيات، إذ أنه يدفع الناس إلى التبسيط المفرط، حتى في اللغة. إلى أن أخذت الرموز والوجوه التعبيرية والملصقات تحلّ محلّ الكلمة، شيئًا فشيئًا، فصارت مشاعرنا تُختصر في “وجهٍ ضاحك” أو “قلبٍ ملوّن”. وهذه الوسائل على بساطتها، تعمل في اتجاهين شديدي الخطورة: فهي من جهة تضعف اللغة وتُقصيها عن الاستخدام، ومن جهةٍ أخرى تقيّد المشاعر داخل قوالب جاهزة لا تحتمل تنوّع الإحساس الإنساني.
تخيّل شخصًا أراد أن يعبّر عن حنينٍ غامضٍ أو حزنٍ رقيقٍ أو امتنانٍ ممزوجٍ بخوف، فبحث عن وجهٍ تعبيري فلم يجده، فينحاز إلى شعورٍ آخر لأن له رمزًا جاهزًا! وهكذا يُختزل الوجدان في صورٍ جامدة، وتُختزل اللغة في إشاراتٍ باردة، ويختزل الإنسان نفسه في ردودٍ سريعة لا عمق فيها.
وإن أخطر ما يواجهنا اليوم ليس فقط ضياع المفردات، بل ضياع الحسّ باللغة. حين نتوقف عن تذوق جمال الكلمة، وعن البحث عن التعبير الأدق والأجمل، فإننا نغلق نافذةً من نوافذ إنسانيتنا. فاللغة الجميلة لا تُجمّل الخطاب فحسب، بل تُهذّب النفس وتوسّع أفق الفكر. ولهذا، فإن الحفاظ على اللغة ضرورة وجودية، لا ترفاً ثقافيا.
إن الأمة التي تصون لغتها تصون عقلها، والتي تهمل لغتها تهمل مصيرها. واللغة التي تنحني أمام الرموز ستجرّ وراءها فكرًا منقوصًا وشعورًا مبتورًا وإنسانًا مشوّهًا.