خلق الله الوجود على مسارين متوازيين متكاملين: (مسار الخلق، ومسار والأمر).
فالأول ثابت لا يتغير، وهو الهيئة البشرية التي خُلق عليها البشر منذ فجر وجودهم وحتى فنائه.
أما الثاني فمفتوح ومتدرّج، يسير الفرد من خلاله في رحلة تطور لا تتوقف، من الوعي البشري إلى الإنساني، ثم إلى الآدمي. بهذا المعنى، فإن كل إنسان يولد على الخلق البشري، لكن وعيه هو الذي يحدد مرتبته في سلّم الوجود.
في بدايات الخلق، كان الخلق بشراً بوعيٍ بشريٍّ، وهذه أدنى درجات الوعي في عالم الخلق البشري، لكنها في الوقت نفسه درجة عليا في عالم الكائنات الأخرى. فالوعي البشري في جوهره يقوم على التدريب والتكرار، لا على الفهم والإدراك؛ لذلك نجد بعض الحيوانات يمكن أن تصل إليه بالتعلم، كما نرى في السيرك حين تُدرَّب على السلوك والطاعة. لكنها تبقى عاجزة عن تجاوزه، لأن مسارها مغلق عند هذا الحد، بينما مسار الخلق البشري مفتوح ليترقى في وعيه ما دام حيًّا.
إن (الوعي البشري) يتسم بالخوف والتوجس والانغلاق، يعيش صاحبه غريزته لا روحه، ويدور في فلك الحذر والتملك. يضع بينه وبين الآخرين مسافات أمان، ويظن أن اقترابهم خطر عليه. لا يشارك، بل يحتكر، ولا يأنس، بل ينعزل. إنه وعي البقاء لا البناء، وعي يحكمه الشك والغيرة والأنانية، وتغلب عليه طبائع الدفاع والهجوم والارتياب.
ومع امتداد الزمان، وحكمة الخالق التي أودعها في الخلق، بدأ هذا الوعي يتطور تطوراً طبيعياً متوارثاً. شيئاً فشيئاً، فبدأ الأفراد يألفون بعضهم، ووجدوا في القرب طمأنينة، وفي المشاركة حياة. ومن هنا دخل الفرد في مرحلة وعي جديدة: إنها الوعي الإنساني، حيث أصبح قادراً على الأنس والتواصل والفهم، وصار قادراً على تلقي الخطاب، فخاطبه الله: «يا أيها الإنسان».
في هذه المرحلة أصبح الإنسان قادراً على الفهم والتعليم، ولكنّ تعلقه بالآخرين ازداد؛ حتى صار تعلقاً مرضياً. فاعتمد عليهم في شعوره بالأمان وفي تفسير معنى وجوده، حتى غاب عن وعيه أن المصدر الأول للأمان هو الله لا الآخرين. ولهذا شدّد الله عليه الخطاب في القرآن، ينهاه ويعنفه ويذكّره، كيلا يعود إلى توحشه الأول، وكيلا يفسد أنسه بالظلم أو الغدر.
ثم تجلت المرحلة الأسمى: مرحلة الوعي الآدمي، وهي قمّة التطور الوجداني والروحي للفرد. في هذه المرتبة يتصل الفرد بخالقه اتصالاً مباشراً، فيتلقى العلم والإلهام من الله كما قال تعالى: «وعلّم آدم الأسماء كلها». الآدمي ليست حاجته محصورةً في معلم يلقّنه، لأنه يتعلم من الله عبر كل شيء حوله؛ يسمع صوته الداخلي في لحظات الخلوة، ويفهم بالإلهام أكثر مما يتعلم بالتلقين. لذلك تجده ميالاً إلى السكينة والاعتكاف، كثير الخلوة والذكر، يجد في العزلة وصلاً لا وحدة.
وفي هذا المقام الرفيع، يخاطبه الله في القرآن بخطابات التكريم والإجلال، لأنه بلغ وعي العبودية الصافية، التي لا تعتمد على الناس ولا على النفس، بل على الله وحده.
وهكذا يظل الفرد في رحلة جهاد دائمة، تتقاطع فيها هذه المراتب الثلاث: البشري، الإنساني، والآدمي. فهو يحمل الخلق البشري إلى آخر لحظة في حياته، ولكن وعيه هو الذي يحدد مقامه في الوجود. فيجاهد ليبقى في مستوى الوعي الآدمي، ويتيقظ حتى لا يسقط في الوعي البشري، ويستفيد من الوعي الإنساني دون أن يُقيّده التعلق. لذا فكل آدميّ إنسانيّ وبشريّ، وكل إنسانيّ بشريّ، وليس العكس. إنها رحلة الوعي التي كتبها الله على الإنسان منذ أول الخلق، رحلة الارتقاء من الغريزة إلى الفهم، ومن الفهم إلى الإلهام، ومن الخلق إلى الخالق.