ثمة احتفال صامت يتجدد، ليس للسلع أو التجارة، بل لأجل تلك الأرواح المعتقة التي تُسمّى الكتب. إنها ليست مجرد أوراق محبرة، بل هي مستودع الأسرار، وسجلات الإنسانية، وخريطة العبور إلى عوالم لا يمكن للقدم أن تطأها.
هذه الأيام، في (معرض الرياض الدولي للكتاب) تتحوّل الممرات إلى ممشى للذاكرة والفكرة، فيختلط عطر الورق بعبير القهوة وحماس الباحثين عن كنز لم يُكتشف بعد.
إن القراءة، حالة وجود. فهي اللحظة التي يخلع فيها المرء رداء الواقعية، ويرتدي وشاح التجوّل الأبدي. وإن القارئ الحقيقي هو شخص متعدّد الهويات؛ يستعير عيون الفيلسوف ليرى تعقيد الوجود، ويستأجر قلب الشاعر ليتذوق طعم المشاعر، ويجلس على مقعد المؤرخ ليلمس خيط الزمن. إن هذا المزيج يمثل رحلة غوص في نعيم بحار الوعي، حيث تتخلق كل صفحة على هيئة رئة إضافية تتنفس بها الروح أكسجين المعرفة.
كم هو جميل أن نحمل في أيدينا مفتاحاً سحرياً يفتح لنا أبواب السجون الضيقة للفكرة الواحدة، والزاوية اليتيمة المنعزلة، لتصبح عقولنا حدائق غنّاء تتعدد فيها الأزهار والثمار.
أما الكتابة، فإنها هي ذلك الفن المقدس، هي تحويل الصمت إلى الصوت المسموع. فيمسك الكاتب بخيوط النور الهاربة من الشفق، ويصنع منها نسيجاً متماسكاً يُدعى (النص). إنه توليد قاسٍ ومُبهج في آن واحد؛ أن تستخرج تلك الكتل المشتعلة من الشعور والتجربة، وتوضع على الورق مُرتّبة ومنمّقة، لتتحوّل الفوضى الداخلية إلى نظام جمالي خارجي. وفي كل حرف يخطّه الكاتب، يودع به جزءاً من وجوده، في خزانة الإنسانية العتيقة، ويفتّش عن ذاته المفقودة في دهاليز الجمل، فيخلق بذلك عهداً أبدياً بينه وبين من لم يلتقِ بهم. فالكلمة المكتوبة هي الشجرة الوحيدة التي تثمر في كل الفصول وتتحدى كل رياح النسيان.
لم يقتصر الأمر على حبر المخطوطات البطيئة، ففي عصرنا هذا، أصبح التدوين همسة سريعة ونبراساً عابراً. إذ أنه بمثابة توثيق للحظات العمر، وتثبيت للانطباع قبل أن يتبخر، إنه هو مرآة الذات في الزمن الرقمي. ومحاولة للاحتفاء اليومي بالذات الموجودة، لجعلها جديرة بالقراءة والمشاركة. وبذلك، أصبح المُدوّن راوياً؛ يُشارك ركنه الصغير في متحف الإنسان، رابطاً بين القارئ والكاتب بـخيط من فورية الرأي وصدق التعبير.
هذا التجمع العظيم للكتب ليس سوى تأكيد على أننا لا نزال نبحث عن منازل الروح؛ تلك المساحات الرحبة التي نجدها في طيات كتاب قديم أو في إشراقة فكرة جديدة.
إنه تجديد للبيعة بين الإنسان ومعشوقته الأزلية: (الكلمة).
الكلمة التي تقرأ فتُضيء، وتُكتب فتُخلّد، وتُدوّن فتُشارك. وهكذا، تستمر دائرة النور بين الكاتب الذي يجمع المؤن، والقارئ الذي يتقن استخدامها، والمدوّن الذي يلهمهما باستقراءاته. وفي هذا التناغم، يكمن سر بقاء الإنسان وجمال رحلته المعرفية التي لا تنتهي.