عيد الأسبوع، موعد تنتظره الأرواح لتلتقي قبل الأجساد. من أوله إلى صلاة الجمعة، ثم تمتد الموائد وتفوح روائح الطعام من بيت كبير العائلة، فيبدأ النداء الصامت بالاجتماع فيلبي الجميع، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، كأن خيطًا خفيًا من الحنين يشدّهم نحو الأصل، نحو تلك المائدة التي جمعتهم منذ سنين.
إن غداء الجمعة ليس وجبة طعام فحسب، بل طقس من الحب والوفاء، تلتقي فيه الأجيال على مائدة واحدة. يجلس الجد بذاكرته المثقلة بالحكايات، والأب بهمومه ومسؤوليته، والشباب بأحلامهم، والأطفال بضحكاتهم. تفاوت في العمر والعلم والمناصب، ولكن سرعان مايذوب هذا التفاوت حين تمتد الأيدي إلى الخبز ذاته، ويتشارك الجميع في طعام واحد. فالمائدة لا تعرف تفاوت الطبقات، بل تعرف المودة التي تجمع ولا تفرق.
في مثل هذا اللقاء، يجب أن يُترك جانبًا حديث الوظائف والمناصب والأموال والأعمال، لأن هذا الاستعراض يفسد دفء الأسرة والاجتماع. يجب أن يقتصر الحديث على المشاعر لا عن الإنجازات، عن الامتنان لا عن المفاخرة. أن نشكر من أعد الطعام، ونثني على من استقبل، ونبتسم لمن حضر. الكلمة الطيبة هنا تساوي هدية، والشكر يرفع مكانة القلوب قبل الأيدي.
ثم تأتي الذكريات كضيفٍ محبّب، تفتح الأبواب للضحك والحنين. يروي الجد مواقف مضت، وتضحك الجدة من مغامرات الصغر، ويستمع الأحفاد بدهشة لعالم لم يعرفوه. تلك الذكريات تُعيد الدفء للأرواح وتغرس الانتماء من جديد. لكن غداء الجمعة أجمل حين يتجاوز الذكريات إلى قيمٍ حيّة تُقال بعفوية: عن الصبر، والكرم، والاحترام، فتتحول الجلسة إلى درسٍ غير مباشر، يترك أثره في النفوس.
ولا أجمل من أن يحتفي الجميع باللحظات الصغيرة: نجاح طالب، شفاء قريب، خطوة جديدة في حياة أحدهم. هذه التفاصيل تبني الجسور بين القلوب وتؤكد أن كل فرح فردي هو فرح للأسرة كلها. وفي أثناء ذلك، يمكن أن تمتزج الجلسة بشيء من اللعب والمرح، فالنكتة البريئة تزيل الجفاف، والضحك المشترك لغة القربى التي لا تحتاج ترجمة.
وحتى يكون اللقاء أكثر دفئًا، يجدر أن يشارك الجميع في إعداد الطعام أو ترتيبه. حين يشارك الأطفال في التقديم، والشباب في الترتيب، والبنات في الزينة، يصبح الغداء عملاً جماعيًا مليئًا بالانتماء. عندها يشعر كل فرد أنه شريك في المحبة لا مجرد زائر.
وفي خضم الحديث، تبقى المشاعر الصادقة أجمل ما يقال: كلمة “اشتقت لك”، أو “وجودك يسعدني”، أو “الله يخليك لنا”. هذه العبارات الصغيرة تملأ المكان دفئًا، وتغرس المحبة في صمت. وبعدها يمكن أن يمتد الحوار نحو المستقبل المشترك للأسرة: ماذا يمكن أن نفعل معًا؟ مشروع خيري؟ رحلة؟ فكرة تجمعنا؟ فالحديث عن المستقبل يربط الأجيال كما تربط الذكريات بين الماضي والحاضر.
وقبل أن يغادر الجميع، تأتي لحظة السكون الجميلة: دعاءٌ جماعي يرفعه الكبير، يشكر الله على اللقاء، ويدعو أن يبقى الودّ بين القلوب. في تلك اللحظة، يصمت الكلام وتتكلم الأرواح، كأن البيت كله صلى صلاة حبّ خفيّة.
غداء الجمعة ليس طعامًا، بل ذاكرة جماعية تُعيد للبيوت نبضها. هو درس أسبوعي في الرحمة والتسامح، ووصية تُروى على موائد الحب. وإذا حفظناه بروحه الأصيلة — بعيدًا عن الاستعراض والمقارنات — فإنه سيبقى جسرًا يربط الأجيال، ويذكّرنا كل أسبوع أن العائلة، مهما تفرّق أفرادها، ما زالت قلبًا واحدًا ينبض في بيتٍ واحد.