في اليوم الوطني السعودي، لا نروي فقط قصة توحيد جغرافيا مترامية الأطراف، بل نستحضر ملحمة بناء وطنٍ بدأ من الصحراء، وامتد ليصنع مجدًا يتجاوز حدود المكان والزمان. وطنٌ لم يولد من فراغ، بل خرج من قلب الرمال، وارتكز على ثوابت راسخة في العقيدة، والهوية، والولاء. ومن هناك، بدأت الرحلة... رحلة المملكة العربية السعودية، التي صاغ ملامحها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، حين أدرك أن التوحيد لا يكتمل بمجرد إعلان الدولة، بل يتطلب غرس الإنسان في الأرض، وبناء مجتمع جديد يخرج من نمط الترحال إلى ثقافة الاستقرار والتنمية.
في لحظة من لحظات الحكمة السياسية والاجتماعية، أطلق الملك عبدالعزيز مشروع توطين البادية، وهو مشروع حضاري لا يقل أهمية عن التوحيد العسكري والسياسي، بل ربما كان امتدادًا له في عمق التاريخ وبُعد الرؤية. فكانت "الهِجَر" هي البذرة الأولى. تلك المجتمعات الصغيرة التي وُلدت في قلب الصحراء، لم تكن مجرد أماكن للإقامة، بل كانت نواة لصناعة الإنسان، وزرع مفاهيم الاستقرار، والانتماء، والتعليم، والزراعة، والنظام. كانت البداية من هجرة الأرطاوية، أولى الهِجَر التي ظهرت إلى النور، وتوالت بعدها الهجر في مناطق عدة مثل ساجر، والغاط، والبجادية، وتمير، والحريق، ورغبة، وغيرها، وكل واحدة منها كانت بمثابة معمل لتشكيل ملامح الدولة الحديثة، ومركزًا لغرس الولاء في قلوب القبائل، وتوحيدهم تحت راية واحدة.
لقد كانت تلك الهجر، رغم بساطتها العمرانية، عبارة عن كيانات مدنية مصغرة، ساعدت على تكوين مجتمع سعودي حديث في زمن كان الاستقرار فيه حلمًا بعيدًا. هناك، في بيوت الطين، ووسط الساحات الترابية، بدأت الهوية الوطنية السعودية تتشكل بهدوء، وبدأت ملامح الدولة تتضح بعيدًا عن الفوضى القبلية، والتفرّق الجغرافي. كانت الهِجَر تمثل عقولًا جديدة أكثر مما تمثل مباني، وكانت نظرة الملك عبدالعزيز تتجاوز الحاضر، لتؤسس لمستقبل لم يكن قد وُلد بعد.
ومع مرور العقود، لم تتوقف المملكة عن النمو. فالهجر التي بدأت بالبساطة تحوّلت إلى مدن نامية، والمدن صارت مراكز اقتصادية وتعليمية واجتماعية، والمجتمع السعودي، الذي خرج من قلب الصحراء، بات اليوم يقود نهضة عربية وإقليمية يتحدث عنها العالم. وها نحن اليوم، بعد أكثر من قرن، نرى حلم المؤسس حيًّا في مشاريع عملاقة، تُجسّد رؤية الحاضر وطموح المستقبل. رؤية المملكة 2030، التي أطلقها ويقودها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ليست سوى امتداد طبيعي لذلك المشروع الأول، مشروع التوطين. لكنها اليوم تخرج من حدود الهِجَر إلى مدن لا تُشبه إلا المستقبل نفسه، مدن مثل نيوم، التي لا تُعد مدينة فقط، بل نموذجًا عالميًا لحياة الغد، ومرآة تعكس طموحات وطن لا يعرف التراجع.
نيوم، بأفقها اللامحدود، ومشاريعها التي تتحدى المألوف، تقف شاهدة على أن المملكة التي بدأت من الأرطاوية وساجر والغاط، وغيرها من الهجر التي تأسست أصبحت قادرة اليوم على تصدير مفاهيم الابتكار والاستدامة والاقتصاد الرقمي للعالم. فكما كان الملك عبدالعزيز زارع الهِجَر في قلب الصحراء، ها هو الوطن اليوم يزرع نيوم على ضفاف البحر، وفي أحضان الجبال، لتكون رسالة واضحة: أن الجذور ثابتة، لكن الأغصان تمضي عاليًا نحو السماء.
وما بين الهِجَر ونيوم، مسيرة لا تُقاس بالمسافة، بل بالإنجاز، ولا تُقاس بالسنوات، بل بالعزيمة. هذه هي المملكة العربية السعودية، التي بدأت رحلة البناء من الأطراف، وأثبتت أن التنمية ليست حكرًا على العواصم، بل تبدأ من حيث تنمو الفكرة وتُروى بالولاء. واليوم، نعيش عهدًا ذهبيًا بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين، عهدًا يشهد تحولات غير مسبوقة، ويُعيد رسم مستقبل الوطن بحكمة الماضي وتسارع الحاضر.
في هذا اليوم الوطني، لا نُحيي الذكرى فحسب، بل نجدد العهد، ونرفع الرأس فخرًا بوطنٍ لم تُغره المظاهر، بل شُغف بالجوهر. وطنٌ نبت من ولاء الأرض، ونما بطموح السماء، وما زال يزهر في كل اتجاه.