إن نصفِ الحقيقة يُعمي أكثر مما يبصر. إذ يُعدُّ أخطرَ من الكذبة؛ فالكذبة تُقاوَمُ وتُعرَّضُ للمحاكمة، ولكن نصفَ الحقيقة يُصدَّقُ ويحمل معه النصفَ الآخر المزيف، فيمرُّ الكذبُ في موكبِ الصدقِ. نرى ذلك حين يروّجُ لإعلانٌ تجاريُّ أو لفعاليةٍ أو منتجٍ، فتعرض ميزته الأقوى فقط، تلك التي يطمئن لها قلب المستهلكُ؛ فينساب بثقة إلى الاستجابة، بينما لو تبيّنت التفاصيل والقيود والآثار الجانبيةً لربما تغيّر القرار. ونراهُ أيضًا حين يستشهدُ أحدهم بإحصائيةٍ صحيحةٍ فتُعرض على انها الحقيقةُ الكاملة، بينما جوانب الصورةُ الأخرى قد يغير شكلها تماماً.
إن أنصافِ الحقائقِ جائرة، إذ يُبنى عليها أحكامٌ وقراراتٌ وانطباعاتٌ منطقية ظاهريًا، ويُحكمُ على إنسانٍ في لحظةٍ؛ لأن أحداً روى عنه موقفًا مقتطعًا وأهمل الحدث الكامل، فيُقدم المشهدُ كقصة، والجزءُ ككلٍّ.
ولا يقتصرُ فخ نصفِ الحقيقة على الآخرين فحسب؛ بل يتسلّلُ إلى داخل الفرد أيضاً. فيبرر لنفسه أفعالًا بنصفِ تبريرٍ يُريحُ بها الضمير مؤقتًا: كأن يتأخر عن موعدٍ فيبرر السببَ بالازدحام، ويُغفل أنه خرج متأخرًا. أو يُعاقب شخص ويوبخ لأنه رفع صوته، بينما هو قد تعرض للصفع.
ولأن أنصافَ الحقائقِ تختبئُ جيدًا؛ فإن استكمال الصورةِ هو السبيلُ الوحيدُ لتفادي هذا الفخِّ. كل ماعلينا هو تأخيرُ إصدارِ الحكمِ حتى نستكملَ أسئلةً جوهريةً: «ما الذي لم يُقل؟ ما الذي غاب؟ ما هي القصةُ الكاملةً؟» كما أنه يجبُ أن تُستقصى الأجوبة من مصادرَ متعددةٍ، بصدقٍ مع الذاتِ، وشجاعةٍ في تقبّلِ القصةِ كما هي، حتى لو كانت مُرهقةً.
إن أنصافَ الحقائقِ مغريةٌ وسريعةٌ وتريح الفكرَ مؤقتًا، ولكن الحقيقةَ الكاملةَ -وإن كانت أثقلَ وأبطأَ في الوصول- تبقى وحدها هي التي تُنيرُ الطريقَ بصدقٍ ووضوحٍ.

