لا أعلو على زملائي الإعلاميين، إلا أني أرى أننا في عالم الإعلام المعاصر، تبدو الإثارة كسحر خالد يجذب انتباه الجمهور في ثوانٍ معدودة، ويرسم في أعينهم ألوانًا من الفضول والرغبة في المعرفة. لكنها ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة فعالة لتمرير الرسالة، وبناء جسور تواصل مع المتلقي. ويمكن تبسيط الإثارة في ثلاثة أوجه:
1- الغرائز: وهي تلك الدوافع الفطرية التي تنبض في داخل الإنسان؛ فهي تثير الحواس وتعمل كوقود لإشعال اهتمامه. كالغذاء والعلاقات وكل الاحتياجات الفطرية، فالإعلام الجيد يستغل هذه الطاقة الطبيعية لتوجيه الانتباه إلى قضايا مهمة؛ كالتوعية الصحية والاجتماعية، لا لإغراق المتلقي في أسوأ الانزلاقات.
2- الغموض: وهو عامل محفز للعقل، يدفع المشاهد إلى طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات. لذا فإن ترك سؤال معلق أو مفاجأة مدروسة في سياق تقرير أو حلقة تلفزيونية، يجعل المتلقي مترقبًا، متشوقًا لإكمال المشهد.
3- الصراع: وهو روح الدراما وتجسيد لتقاطع وجهات النظر والتحديات. بفضله نلقي الضوء على التناقضات التي تواجه مجتمعنا؛ فنحوّل قصص الصراع إلى حوارات بنّاءة، لا إلى شدّ عصبي أو فوضى. الصراع هنا ليس من أجل الجدل وحده، بل من أجل الوصول إلى حلول.
وللأسف، لعل هذه الوسائل في بعض أركان إعلامنا انقلبت إلى غايات بحد ذاتها، ونسينا الغايات الحقيقية التي تبرر وجود الوسيلة. فأصبح هدف بعض صناع المحتوى هو الحصول على “عدد المشاهدات” فقط، لا أكثر ولا أقل، كما لو كان رقمًا في لوحة إعلانية. وعلى الرغم من أن المشاهدات والعوائد الإعلانية تمثل دعامة مهمة لتمويل العمل الإعلامي، إلا أنه لا يجب أن تطغى على القيم الأخلاقية والوطنية والدينية والاجتماعية.
فالغاية الوطنية تلزمنا بنشر محتوى يعزز التضامن ويعلي شأن الوطن في وجدان الناس، والغاية الدينية تذكرنا بالرحمة والعدل والإحسان، والغاية الاجتماعية تشدّنا نحو التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع. هذه القيم لا تتناقض مع الإثارة ولا مع التسويق، بل تمنحهما عمقًا ومحتوى ذا قيمة حقيقية، يحافظ على توازن المشهد الإعلامي ويصون مكانته.
لذلك، علينا إعادة رسم خارطة الأهداف الإعلامية: فنستثمر الغرائز لنشر الفضائل، ونوظف الغموض لزرع التساؤل البنّاء، ونستخدم الصراع لتسليط الضوء على التحديات مع تقديم الحلول. في النهاية، يظل الإعلام ميدانًا للتنوير والتغيير الإيجابي، حينما يكون هدفه الأسمى خدمة المجتمع والنهوض بالقيم، لا مطاردة الأرقام فحسب.

