من أسرار التواصل والاتصال(1):
(الناقص كامل، والكامل ناقص).
هذه العبارة تختزل فلسفةً عميقةً في كيفية صياغة الرسائل وتأثيرها على المتلقي، فالشرح الزائد يطفئ وهج الفكرة، ويوقعنا في دوامةٍ من التفاصيل، التي تصرف انتباهنا عن الجوهر. وكما قيل: «يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق». لذا فإن للإيجاز سحره الخاص الذي يجذب المتلقي ويشده، لأنّ الرسالة المختصرة تترك فسحةً لخياله في استكمال المعنى، فتتحول من مجرد كلمات، إلى قصةٍ يعيشها ويتفاعل معها.
تنبع أهمية الإيجاز، من طبيعة الإنسان التي تميل إلى المشاركة والابتكار في فهم الرسالة. فحين يضع المرسل النقاط الرئيسة أمام المتلقي، يشرع المتلقي في ربطها ببعضها، بإضافة التفاصيل التي تكمل له المشهد في ذهنه. بهذه الطريقة، يتحول التواصل إلى حوارٍ داخلي، يتماهى فيه كلا الطرفين؛ فلا يكتفي المتلقي بالمرور السطحي على الفكرة، بل يغوص في أعماقها، ويصقلها بما يملك من خبرات ولغاتٍ داخلية.
إنّ الرسالة المختصرة، هي دعوةٌ صامتةٌ للمتلقي، بأن يكون شريكاً في بناء المعنى، فكلما تُرِكَتْ مساحةً للأفكار، كلما زاد وقعها في النفوس.
من جهةٍ أخرى، فإن البلاغة تكمن في الجمع بين الدلالات العميقة والكلمات القليلة. فاللغة العربية تزخر بالألفاظ الموجزة التي تخبئ في طياتها أسراراً لا تنضب. وفي هذا السياق، يصبح الناقل الماهر، قادراً على توظيف التشبيهات والكنايات، لتوصيل معانٍ متعددةٍ في جملةٍ قصيرة. فمثلاً، يكفي القول: «الكتاب نافذة»، ليخطر في الذهن صورةٌ كاملةٌ عن المعرفة والتنوير، دون الحاجة إلى شروحاتٍ طويلةٍ حول دور الكتاب. وهنا يتجلى جمال البلاغة: (معانٍ أكثر في كلماتٍ أقل).
غير أنّ الإفراط في التكتم، والإيجاز المفرط، قد يوقع الرسالة في فخ الإبهام، فيفقد المتلقي نقطة البداية التي يحتاجها لاستيعاب الفكرة. لذا، يجب على المرسل أن يوازن بين الوضوح والاختصار، فيختار الألفاظ التي تنقل الفكرة بجلاء، دون إغراقها بتفاصيلٍ ثانوية. لكي يشعر المتلقي بأنه مساندٌ في بناء القصة، ولا يجد نفسه متروكاً للمجهول أو مضطراً للبحث عن مفاتيحه في متاهات الكلام.
ختاماً، «الناقص كامل والكامل ناقص» ليست مجرد عبارةٍ حكيمة، بل هي دعوةٌ للتأمل في سرِّ الإبداع اللغوي وفلسفة التواصل الفعّال.