بين منازل الأحداث وممرات المواقف، ونحن نتتبع أزقة الحياة المتعرجة، يصادفنا الألم… كأحد المواد الأساسية التي يُبنى بها كيان الإنسان. لا يمكننا أن نتم هذا البناء من دونه، إلا أننا قد لا ندرك ذلك، وقد لاندرك أيضاً أنفسنا وهي تتمدد من دائرة الألم إلى دائرة العذاب.
من هنا تتجلى الحاجة لمعرفة الفرق بين الألم والعذاب.
فالألم لحظة… أما العذاب: فهو استمرار تلك اللحظة. واستمرارها من خلال رفضها، وعدم استيعاب رسالتها.
حين يحل بنا الفشل أو الخسارة أو المرض أو الخذلان، لا يأتينا الألم كي يعذبنا، بل لكي يرشدنا. كمنبهٍ يقفز بنا من سبات السهو، فيقول لنا: “توقّف! انظر إلى مكامن الخلل…! أصلح ما بدا منك!”. ولكن حين نرفض الانصات، نواصل الركض هربًا من الوجع، فنشعل جمر العذاب بعنادنا.
ولقبُول الألم أبواباً ثلاثة:
1. الإقرار بالحدوث: الاعتراف بأن تألمنا فعلٌ شجاعٌ يحرّرنا من استبداد الألم. فعدم اعترافنا به يجعلنا نصرّ على أن لا يعبر، في حين انه لم يأتي إلا ليعبر.
2. الإقرار بالحكمة: الإيمان بأن الله لا يختبرنا بلا سبب، بل يدعونا عبر الألم إلى نسخةٍ أكثر نضجًا وقوة.
3. التسليم الصبور: وهو التفويض الكامل لله في بلوغ الغاية، مع الإبقاء على الهدف حيًّا في صدورنا، وحمل سلاح الصبر في معركتنا.
هنا يتضح الفرق بين “التسليم” و”الاستسلام”:
• فالتسليم: توكيل الأمر لمن هو أهلّ للثقة —وخير من نوكّل إليه أمرنا هو الله— مع تثبيت الأهداف في القلب والصبر على وطأة الألم حتى ينجلي.
• اما الاستسلام: فهو استنفاد الصبر، والانكسار عن المضي قدُمًا، فتخبو فينا رغبةُ التغيير، وتلاشي الهدف، والانسحاب عن المهمة…
فعندما نقف أمام الألم بثقةٍ راضية، نقول:
“نعم، أصابني الألم، لكنني أُقِرّ به، وأسلم أمري لمن وحده يعلم خبايا الصدور، وأواصل السعي ما استطعت، بصبر لا ينفد.”
في هذه اللحظة تزول قيود العذاب، وتحررنا رسالة الألم من عبء الاستنكار. حينها نتمعّن أسرار الألم، فيعطينا زادًا ثمينًا من الحكمة، ومناعة نفسيةً تختصر لنا جملة من عقبات الطريق.
فلنحول كل ألم إلى درسٍ يزرع فينا عمقًا لا تصنعه النشوات، ولنعتبر الحياة بناءً متقنًا يُشيد بمواد الألم والتسليم معًا. لا تدع العذاب يطولك بمقاومة الرسالة، بل استقبله بقبولٍ واعٍ، وسلّم هدفك إلى مدبر الأمور الحكيم، وارتحل راحلة الصبر.
حينها لا يعود الألم ظلاً يلاحقنا، بل يعبر سريعًا بعد أن يؤدي مهمته: التي هي: تطهيرنا من ضعفٍ، وبثّ بذور القوة في أرواحنا.
في نهاية المطاف، تكون الحياة قد بُنيت على توازنٍ بين الألم والقبول، بين الطموح والتسليم، فتبدو لنا دروبنا مضاءةً بنور الأمل…
"فعهدنا مع الألم عهدُ شراكةٍ تنقينا وتنهض بنا".