في خضم رحلة الإنسان نحو التطور الروحي والعلمي والذهني، قد تومض أمامه شعلة الثقة الزائدة بنفسه لتعيده إلى نقط ما قبل البداية.
إن الوقوع في فخ الانبهار بالذات بوصفها بالنقاء أو الحكمة أو الصدق، دون تعريضها الدائم لميزان النقد والمراجعة الذاتية، هو انغماسٌ يقود لصحراء الضلال الواسعة. ولقد شهد التاريخ قصصاً لتجليات التكبر التي بدأت في محراب العبادة، فكانت نهاياتها موحشة.
لقد كان إبليس قبل الطغيان من عبادٍ صالحين، يجالس المقربين من الملأ الأعلى بذكره الخاشع وخدمته الواجبة. إلّا أن النقطة الحاسمة جاءت حين استبد به شعور بأنه أقرب إلى الله من آدم، فاستحال خضوعه في تلك اللحظة، وانقلبت عبادته إلى كفر وإضلال… خادماً لأغراض النفس المتعجرفة التي استبدت بكيانه، فخسر المقام الرفيع، وعاش تبعات فعلته في ذل أزلي.
وليس بعيدا عن ذلك، موسى السامري الذي كان من أهل الخير والصلاح، حتى أنه رأى في إحدى تجلياته موضعاً لجبريل عليه السلام في الأرض، فأخذ من أثره قبضة اغتر بها وتحول بعدها إلى ضياعٍ كامل.
وقارون كذلك الذي كان من قوم موسى عليه السلام، فبغى عليهم بعد أن وهبه الله من خزائن الأرض قدرًا لا يُحصى، هبط به غرور المال إلى أن ظن أنه فوق القوانين والناس. فخسف به وبداره الارض…
العبرة من هذه النماذج أن الخير لا يُقاس بحجم المنزلة التي نتصورها لأنفسنا، بل بالتوازن بين الثقة بالنفس والانفتاح على النقد والتوجيه. فالعقل البشري، وإن بلغ أقصى مداه، يبقى أضعف من أن يحمل لواء الأكوان، ويحتاج إلى المنهج الرباني والإلهام الإلهي ليصون نفسه من الانزلاق في أوحال الغرور.
وفي ميدان العلم كذلك، لا بدّ أن نضع لأنفسنا مناهج الرقابة على الذات لكي تؤمننا من الاعتقاد بأن الباحث أو المفكر بلغ حدّ “اليقين النهائي”؛ فكل نظرة بشرية قابلة للتعديل والإضافة.
لا يعني ذلك إنكار الذات أو الهروب من المسؤولية تجاه غزارة المعرفة أو الخيرات المباحة، بل يقتضي النظر إليها كعطايا تزكيةٍ للنفس ووسائلٍ لخدمة الأمة والبشرية جمعاء.
عندما نعيد التفكر في ذواتنا، فإننا نراقب دوافعنا ونكشف زوايا التكبر التي قد تتلبسنا، فتحرق صرح العبودية لله، سعياً خلف روح الغرور الموحشة.
إن رحلة الإنسان الحافلة بالعلم والعبادة والمشاعر النبيلة، تظل معرضة للانزلاق ما لم نؤمّن لأنفسنا مرايا لا تعرف الكلل، نكون أمامها بتجرد كامل وتسليم وتواضع مطلق، فنستمدُّ منها صورنا الناقصة لنجدد تصحيح المسار.