الحقيقة التي نهرب منها جميعًا هي أنّ كل شيء فانٍ. نحن، وأحلامنا، وما نملكه… كل ذلك سيفنى يومًا ما. هذا الإدراك ليس دعوة للحزن، بل صدمة توقظ وعينا وتجعلنا نعيد النظر في طريقة عيشنا.
عندما نؤمن بالفناء، ندرك أن الحاضر ليس مجرد طريق نحو غدٍ مجهول، بل هو الحياة نفسها. لحظة ضحك، بسمة طفل، فنجان قهوة، جلسة مع صديق، أو نسمة هواء باردة؛ جميعها كنوز لا تُقدّر بثمن إذا مُلئت وعيًا وحضورا.
أما الانشغال بالماضي أو اللهث وراء المستقبل، فهما فخّان يسلباننا أجمل ما نملك: الآن. الماضي جرح لا يلتئم بالهرب، والمستقبل سراب لا يُدرك بالطلب، وكلاهما يسرق منا سلام اللحظة.
الإيمان بالفناء يغيّر نظرتنا للحزن والخسارة. يجعلنا نرى أنّ الألم مرحلة عابرة، وأن كل خسارة تحمل درسًا، وأن السعادة ليست في الانتظار الطويل؛ بل في الاستمتاع بما هو حاضر. إن الطموح لا يختفي مع هذا الفهم، بل يصبح أكثر توازنًا وصدقًا، فلا نؤجل فرحنا حتى نصل، بل نفرح ونحن في سائرين الطريق.
ولكي يتحول هذا الوعي إلى سلوك، تكفينا عادات بسيطة: أن نتناول الطعام ببطء؛ فنستمتع بمذاقه وتركيبته ورائحته، وبمن يشاركنا فيه، وأن نصغي بصدق لأحبائنا بدلًا من الانشغال بالهاتف، وأن ننجز أعمالنا اليومية بتركيز يجعل حتى الروتين ذكرى جميلة، وأن ندوّن كل يوم ولو شيئًا واحدًا نشعر بالامتنان له.
بهذه الممارسات نفهم معنى "السعادة بقدر الإيمان بالفناء" فنصنع سعادة متكررة، ونحوّل فكرة الفناء من مصدر خوف إلى مصدر حياة.

