عقد قسم اللغة العربية بجامعة كالكوت ولاية كيرلا بالهند ندوة اقتراضية حول تجربتها في عالم الكتابة، المواضيع التي أشارت إلى الندوة كما يلي.
المحور الأول:بعض الملامح من السيرة .
سونيا الفرجاني،البنت البكر لأم وأب رائعين.
أم لطفلين هما الحياة والشعر والعالم الذي لا أستطيع الإستمرار خارجه.
متحصّلة على الأستاذية في التاريخ والجغرافيا من كلية العلوم الانسانية بتونس العاصمة.
مديرة بيت محمود للشعر بجزيرة جربة
امرأة تونسية في رصيدها أربعة مجاميع شعرية وتطمح لأن تنال نصيبا من الشعر في ما تبقى من العمر والكتابة.
لماذا الكتابة ، ولماذا الشعر.. ؟وكيف كانت أول المحاولات الطفولية ؟
يصعب جدا أن نتذكر ملامح طفولتنا الشعرية وربما لا توجد طفولة وكهولة وشيخوخة شعر.
الشعر مفاجآت عمرية وأزمان تتوالى علينا …الشعر عمل فردي نعيشه في زمن غامض،داخل مقاسات تخفقها الساعات ويعجز عنها التقويم.
هنا في هذه المسافة وهذه النطاقات، في هذه المناخات ،أعيش وأطبّق طقوس حياتي سواء كابنة أو كأمّ أو كزوجة.
لا مفر من الشعر .
يقول الكاتب الفرنسي موريس بلانشو:الكتابة هي الاستسلام لفتنة الزمن هو علاقتي اليومية بكل شيء حولي.
لا أعرف تماما كيف ومتى بدأت الكتابة ،ولكن كنت في سباق شديد بيني وبين مسلّمات اللغة، فمنذ أن حاولت أولى نصوصي وسميتها شعرا كنت أعارك المعنى وأبحث فيه عن أجنّة مبتكرة تشبهني أو تستنسخني بصيغة ما،
الغريزة ربما قادتني إلى الشعر، فآختبرتني الحياة بجيناته وآختبرتها من خلاله،كأني في مختبر كبير ومظلم تكثر فيه الحرائق والأدخنة.
أنا مطلعة على الشعر العربي القديم ،ربما نهلت منه الكثير في فترة الطفولة وبداية الشباب ،ثم انتقلت بشره للشعر الحديث والمعاصر العربي منه والعالمي، ودخلت بانجذاب حاد إلى مجرته التي لا تكف عن الدوران
. كما قادتني الغريزة لثدي أمي رضيعة قادتني للشعر حين أدركت اللغة،ولا أقول حين تعلمتها،فالإدراك مرحلة أبعد بكثير من التعرف أو التعلم.
أنا لم أختر نمط الكتابة التي أعيشها ، الشعر اختارني وأنا رهينته السعيدة.
وأنا امرأة تعيش الشعر من لحظة تستفيق حتى تنام
العالم مكتظّ بالشعر والحقيقة وعلينا أن نكتشف ذلك باللّعب مع اللّغة لعبة الغّميضة .
أنا أستاذة تاريخ وجغرافيا ولكني أعيش خارج التاريخ وخارج الرّقعة التّرابية التي أنا فيها الشعر يفرض على حياتي مناخات وأزمنة اخرى .
الشاعر يتأثر بكل شيء حوله دون أن يعي لكن من يقرؤون له بعمق يكتشفون ذلك.
الشعر خميرة المكان الذي نعيش فيه ببيئته وأناسه وأفكارهم ونمط عيشهم وهواجسهم ومخاوفهم ومعتقداتهم من هذه الخميرة يصنع عجينة عالمه الشعري ويشكل أرغفته الشّعرية وأحجامها ونكهاتها المختلفة .
في جزيرة جربة ولدت وكبرت وأعيش .
جربة جزيرة ساحرة حالمة من أقدم المدن في التاريخ ذكرت في الاوديسا والالياذا ،وأسطورة أوليس فيها حسب اعتقادي حقيقية فأنا لا أصدق أنّ الأساطير حكايات مزيّفة إنها الحقائق العظيمة التي خاف الإنسان منها فأخفاها في أساطير أي أسطر وهذا تعاملي الخاص جدا مع اللغة،أحوّلها كما أشاء.
جربة حالمة جدا ومن يدخلها يصاب بعشقها وأنا أعشقها وقلما استطعت الكتابة في الذين أحبّهم.
إنّ العشق أكبر من اللغة واللغة في حب جربة هزمتني.
لا يمكن أن اكتب عن جربة كمكان مجرد أو مدينة جميلة، إنها حياتي،
وقصائدي نسخ عن حياتي أو استنساخ لها.
وفي امراة بني باندو كتبت جربة بطريقتي وكتبت الشعر بمزاجي.
المحور الثاني:
لماذا الكتابة؟ هل الشعر قصة حب ناجحة أم فاشلة بيني وبين اللغة ؟
هل الكتابة تجربة حياتية ؟
علاقتي بما حولي ليست بسيطة،علاقة شائكة،أو هي معقدة بقدر ماهي واضحة.
أعرف أني أقيم خارج هذه الحدود الجغرافية للأرض، أتجاوزها يوميا إلى مسافات بعيدة أسمّيها مسافات تكوين.
الكتابة حالة من التنفس الذي لا يمر عبر الرئتين والفم والأنف ،هي حركة شهيق وزفير تستفحل في كل أجزاء الجسد حتى العظم.
قد نسميها حُبّا مستعصيا أو قلقا مضطرما،نجاحها منوط بعهدة المتلقي .في اعتقادي الكاتب لا يملك حكمة تقييم ما ينتجه من خلطات عجيبة فيها مزيج عقل وجنون.
نحن لا نعرف من أين تبدأ الكتابة ولا كيف تتكّون و إلى أين تنتهي .
هي فوضى حواس ونظام جنون.
قد لا تبدأ بقصة أو حدث لكنها تباغت وتصنع قصتها وأحداثها كمن يخيط سجادا بأقمشة مستعملة جميلة.
المحور الثالث:ليس للأرض باب وسأفتحه ديوان شعر صدر منذ عام . هل يحاول فتح باب لأسئلة الوجود ، أم تحدي لواقع الإنسانية فى راهنه ؟
تحدث رامبو الشاعر الفرنسي عن” كيميائية الكلمة” وفي هذا العنوان الذي أستبدّ بي”ليس للأرض باب وسأفتحه” خلطة سحرية وعجيبة أعرف تركيباتها وأشم مسارات الطريق إليها.
هذا العنوان خليط ومزيج من المعاني المشرعة على احتمالات شعرية ووجودية وفلسفية
لا أحب أن أفصح عن المعنى فيها، بقدر ما أسعى لإخفائه ،إذ” أحبّ أن تخترق المعاني في قصائدي” كما يقول بول شؤول.
في هذا العنوان أنا أفتح الأبواب لأتلمّس حدود الوجود والعدم .
أفتحها لا لأهرب من المواجهة، بل كي لا أصطدم بالمكان والزمان والعزلة والجدران ولا أصطدم بأهلي ومجتمعي.
الخروج لا يعني الفرار، نحن نفتح الأبواب لنغادر ونفتحها لندخل ونفتحها للتهوئة ولجمع الضوء أو إخفائه.
ما نوع هذه الابواب ؟ما أشكالها ؟ما أحجامها؟ ما اتجاهاتها ؟كل هذه الأسئلة قد يكشف الإجابات عنها القارئ الفطن أو النهم داخل انصوص الكتاب.
كل كتاباتي تحدي بدء بشكل النص.
أنا لا أكتب وفق برمجة ،الكتابة عندي انتقال من الحاضر والماضي نحو حياة أصنعها بمفردي على مقاس رؤاي وتطلعاتي.هذا العالم السّاقط فجأة من مكان غامض لأسباب غامضة طريقة السيرورة عليه تزعج الحقيقة التي أراها ولا أجدها.ما توارثناه ثقيل وما نعيشه ملطّخ بالفوضى.
أنا على يقين أن الانسان قادر على تحقيق المدينة الفاضلة وإن لم يفعل فإن الشعراء الحقيقيون عاشوها وأدركوها وإن كان ذلك في عزلتهم الموجعة.
هناك علاقة خفيّة داخل مكونات هذا العالم علاقة متنافرة أو متناطحة بين الجنة والنار بين الخير والشر بين الغيب والواقع بين السماء والأرض كل هذا يكشف عنه الشعر ويكتشفه.
“معجزة الشعر خفاء معانيه” كما يقول خزعل الماجدي شاعر وباحث من العراق، ومعجزة الشاعر محاولات كشف هذه المعاني ورصدها .
الشعر كائن صعب المراس ، وأخطبوط بمجسّات عملاقة تلتقطنا من الوجود لتركلنا في “دوامة أزل تبدأ بالشعر وتنتهي فيه” لذلك نحن نعيش فيه الدوار والدوامة ونكابد التدافعات والتدفّقات وانفجارات المعنى ،نقضي الحالة هروبا وعودة ،نصطاد اللغة وتصطادنا.
الشعررحلة صيد شاقة .
في ديواني هذا الأخير حاولت رصد كائنات هذه الرحلة وتجميعها لأستجمع قوة كبرى وأفتح باب المعنى على العالم.
المحور الرابع :هل القصيدة تمرّد؟؟
هل قصيدة النثر شكل من أشكال هذا التمرد؟
أنا متمردة خارج الفوضى وخلف الجنون أركب أجنحة الروح وأحوم بها حول مزارات الحمام.
هناك أواكب حياة أعرفها وحدي وأعيشها مع قرائي حين ترتفع علاقتي بهم إلى مصاف الغيب القريب.
أنا أعيش الشعر دون خرائط ،أتحرك فيه كعالِم استكشاف يبحث داخل المغارات وأسفل الجبال وفوقها ،حذر مرّات ،متهوّر أخرى.
أبحث عن جوهر المعنى الهارب الغائب وأنقب عن سحره الواسع المدى.
في الشعر نعيش الخطر اللامتناهي،خطر كل شيء لذلك نكون على درجة من الفوضى والعقلانية تشبه الجنون.
من يظن أن القصيدة الحديثة نص سهل فقد سقط في دوّامة مخيفة ورياح لولبيّة أول ما تسحب إليها تسحبه لأنه سيكون غير عارف بحقيقة امتصاصها وسرعة دورانها وانقضاضها لأصوات الوعي والتفاصيل .
هي قصيدة استكشافية لا تحتاج مخطّطا أو قالبا جاهزا هي امتداد لتقاليد معينة ولكن تتجاوزها لدروب غير مألوفة ولمسارب شائكة.
قصيدة النثر تسمية أرفضها ولا أحب الخوض في كل ما يتعلق بهذا التبويب الذي أراه مغلوطا يصيب القصيدة الحديثة في العظم ويشوّهها ويجعل بينها وبين الشعر فجوة عملاقة ..
التسمية أساءت لهذا النمط الحديث من الكتابة وجعلته في بؤرة صراع مقيت يفتعله الناس بين الشعر وبينها بنعتها باللاّشعر.
القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة “امكانية من امكانيات الشعر” وليست الأصل.
لا يوجد أجداد للشعر،لكن له أبناء عمومة وأخوال وخالات.الجد الأول نسبه” لغة “وأصله “معنى.”عدى ذلك فإني أجد فيما يعيشه البعض من خلاف ورفض، حالة مرضية لا مبرر لها.
نحن استقبلنا النصوص السومرية الاولى التي هي شعر واستقبلنا الإلياسا والأوديذا على أنها شعر دون أن نمرّرها تحت سكانار القوالب.
ما يسميه البعض قصيدة نثر مستمرّ منذ اكثر من مائة عام وهذا وحده كفيل بإثبات نجاح هذه القصيدة وأحقيتها في البقاء والتطور والنمو.
قصيدة النثر سيرورة شعرية تفترض موهبة عالية وشعرية دقيقة وتستوجب معرفة عميقة بالموروث الثقافي والشعري والجمالي .
هي اختراق الصوت داخل موسيقى العالم
يقول الشاعر الفرنسي “سان جون بيرس “: “الحقيقة كل ابتكار عقلي هو اوّلا خلق شعري بأحسن ماتعنيه الكلمة .”والحقيقة أن هذه القصيدة تفاجئنا بكل ماهو قريب ولا نكتشفه إلا مع الشاعر .
إن القصيدة الحديثة لا تتشكل بسهولة بالعكس هي كتابة العالم بتكثيف كبير ورمزية مربكة ولابدّ لبلوغها من قارئ متمرّن أو متمكن قادر على فكّ شيفراتها الجمالية .
ليست خرساء أبدا بقدر ماهي كتل من الأصوات والايقاعات الغير مألوفة.
لا يمكن لأي قصيدة أن تكون خرساء إذا تم تصنيفها في خانة القصيدة ،أما نوعها فهذا ما لا أستطيع التواطؤ فيه مع المعنى المسروق من فكرة باريسيّة نظّرت لها سوزان برنار واستوردناها دون أي وعي .
الشعر كائن ناطق سواء كان من التاريخ القديم الذي لم تصنف فيه أنواع القصائد في ذلك الزمن أو من التاريخ الحديث الذي تعددت فيه اللغات واللهجات والكتابات والتصنيفات.
الشعر أكبر من أقفاص التصنيف والقصيدة هلامية لا تتحمل هذه الأحزمة الناسفة التي تربط حول رقابها بين عصر وعصر.