من النافذة المطلة على الماضي الجميل ومن بين أنفاس المسافات وركض السنين لوحت بيدها قائلة ما زلت هنا .
تلك قريتنا أرض حسناء بتول، تربت في كنف جبل شاهق، تأوي إليه منذ أن وجدت، وتسند ظهرها إلى صدره بأمان، تبدو معه كطفلة في حضن والدها.
في باحتها الجنوبية قطع متجاورات من مزارع السمسم، وحقول القمح تسقى بماء واحد.
تطل شرفاتها الشرقية على وادِ كبير بطحاؤه ناعمة، كأنها ذرات تِبرٍ تلمع بخجل في أشعة الشمس.
يُرى من نافذتها الشمالية دكاكين السوق العتيقة المتناثرة، بأبوابها الخشبية التي تتدلى منها سلال الخوص، وحزم الحبال، وأحزمة الجلد.
ولقريتنا مع الصباح حكاية عشق لم تروها أبيات الشعر، ولم تتناقلها أساطير الركبان، فها هو ديك القرية المسن يشحذ صوته من فوق منامته الخشبية التي غزتها دابة الأرض كعصا سليمان، يصيح بصوت عالٍ يتباهى به أمام نجمة الصبح الفاتنة وكأنها تسمعه، فينتبه الكون بأكمله ويرفع عن وجهه دثاره الأسود، ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ويستعد لاستقبال الصبح المولود لتوه، ترضعه الشمس من نورها وتلفه بدفئها , وترمي خيوطها الذهبية على قمم الجبال السمراء فتختفي تحت أشعتها تلك النجوم في السماء ، وبقايا الظلام القابع في الشعاب والأودية، يخترق نورها الرقيق الثقوب الصغيرة في أعشاش الطيور، فتغدو إلى الحقول، قبل أن تستيقظ الفزاعات، وقبل أن يصل الفلاحون ودوابهم إليها
وتصحو بيوت القرية بكل ما فيها، أبوابها المشرعة، ونوافذها المفتوحة ودخانها المنبعث من أفواه التنانير، ورائحة خبز التنور الذي ينشر السعادة في أرجاء المكان.
وماشيتها المصطفة خلف الرُعيان، ودجاجة تنبش الأرض لفراخها، وقطة تموء على جدار انقض نصفه، وأخرى مستلقية تحت شجرة التين ترضع صغارها، وأصوات النساء يتبادلن تحايا الصباح،
ورجل عجوز يدفع دابته تارة ويسحبها تارة أخرى في أزقة القرية يبيع الخضار والتمر والزبيب …………………
مشاهد قروية تختصر جمال الحياة وعفوية اللحظات .
وفي الجانب الآخر حقول ذات بهجة، زرعها اليانع يجري في ورقه ماء الشباب، سنابلها النضرة تكتظ بقمح كحبات اللؤلؤ ينبعث منها رائحة القمح الأخضر، فتشعل النشاط في سواعد الفلاحين وهم يحمون الحقول من تطفل العصافير وتسلل المواشي الجائعة .
وتنتشر فيها يعاسيب تشرب من حبات الندى المتحدرة على الأوراق كدموع الأطفال، وفراشات بيضاء ومرقطة توزع الفرح على العيون، ونحل له طنين، ونمل له دبيب، وخنافس تجيد دحرجة كرات الروث، وجنادب يطارد بعضها بعضا، ودبابير غاضبة، وحشائش تتمايل مع النسيم. وغيوم تشبه قوافل رحلة الشتاء والصيف تحط رحالها في فناء السماء، تجود بحملِها من قطرات المطر في فترات مختلفة من العام، فتأخذ الأرض زخرفها وتتزين، وتنبت من كل زوج بهيج، فتشم رائحة الطين حين يختلط بماء المطر كرائحة العنبر والمسك الأذفر.
كانت قريتنا وحقولها وما بينهما من مشاهد حية وصامتة وطننا الذي لا غربة فيه، وأمننا الذي لا خوف معه، وملاعب الطفولة، وملتقى الأقران
يكفي أن تستلقي في ظل سدرة وارفة تتطاير اوراقها الصغيرة مع نسمات الضحى ,وأن ترخي سمعك لتغريد البلابل، وهديل اليمام ، وتراتيل النسيم بين ذوائب الأغصان، وتسبيح الرياح بكل فجٍ، وهزيم الرعد، وأصوات قطرات المطر حين تقبل وجه الأرض , فتشعر وكأنما حيزت لك الدنيا بجمالها.
واليوم وقد تغيرت القرية برمتها , هجرتها الأرواح وسكنتها أصوات الرياح
أبوابها التي اشتاقت لأيد الطراق, وحنين طرقاتها لخطوات العابرين
ونداءات الباعة المتجولين (بائع البقل ) وصاحب الاقمشة (فرّقنا) ومحبـّل امقعايد ) …………
اما حقولها فتشكو رحيل الأجداد والفزاعات و تفاصيل الحصاد .
؛ قريتنا: وقد كنا
نعيذ وجهك من هم ومن ترح ..وأن يموت على أطرافك الفرح
ستبقى ملامحك القروية الجميلة جرعات من الحب تتعاطاها الذاكرة لتحيا وتستلذ بها السطور لتبقى , لايمسها النسيان ولايعتريها خريف العمر.
2 comments
2 pings
منى الالمعي
20/07/2019 at 4:17 ص[3] Link to this comment
الله يسعدك ويوفقك متألقه كالعاده اعجبتني مقالتك جدااا
ربيع قنا
20/07/2019 at 8:05 ص[3] Link to this comment
يااااجمال وصفك وروعته كمالوكنا بينهم تلك القلوب الطاهره.