"وداعا أيتها البطالة"
قبل أعوام قريبة كانت والدتي تناديني بالطبيب ، وأبي يفضل أن يناديني بالمحامي ، كلاهما كانا يرسمان لي خطا مستقبليا لم أعي حقيقته إلا حين فشلت في أن أسلكه .
يدق منبه ساعتي فأخرج يدي من بين أكوام لحافي لأتحسس وجودها وأوقف إزعاجها ، تسقط عن المنضدة قبل أن يُقفل صوت منبهها المتعالي ، أستيقظ وأزيح اللحاف عني وأتناول الساعة لأغلقها "يا إلهي لقد تأخرت" ، أنهض مسرعا نحو الحمام ثم غرفتي لأرتدي ملابسي بسرعة فائقة وأخرج من المنزل .
إنه يوم المقابلة الشخصية للوظيفة الجديدة التي أتمنى أن يحالفني الحظ هذه المرة وتكون من نصيبي .
تخرجت في الكلية من قسم الحاسب الآلي ، لم أصبح طبيبا كما أرادت والدتي ، ولا محام كما تمنى والدي ، ولا كما كنت أتمنى "رجل أعمال" يهابه الجميع .
في طريقي نحو الشركة .. كان الشارع شديد الازدحام ، ومنبهات السيارات من حولي تزيد من توتر تأخري ، فعليً أن أصل قبل الوقت المحدد كيلا أخسر هذه الفرصة العملية التي مكثت ثلاث سنوات في انتظارها .
تستوقفني الإشارة بعد أن فشلت في تجاوزها ضمن هذا الازدحام الشديد ، تتباطأ الإشارة وكأنها تثير غضبي ، وأخيرا فُتحت وانطلقت السيارات مسرعة من حولي ، وانطلقت أنا أيضا .
حين وصلت بعد عناء الطريق ومشقة الازدحام كان قد فات من الوقت المحدد للمقابلة خمس دقائق ، لفت انتباهي حين نزلت من السيارة أنني لم أغلق أزرار ثوبي بعد ، أغلقتها متوجها نحو مبنى الشركة .. كان مبنى ضخما تحيط به مساحات متسعة من مواقف السيارات والأشجار المتفرقة هنا وهناك ، وأكشاك حراس الأمن ، تنفست بعمق لعلي أزيل توتري "كم من مرة مررت بالشارع العام المقابل لهذا المبنى وأنا أدرس ولم أتوقع أنني سأعمل به ، لازلت أحدث نفسي وأحدثها حتى وصلت مكتب استقبال الشركة ، ورغم الازدحام لدى صندوق الموظف المسئول إلا أنني تمكنت من تجاوز البعض للسؤال عن قسم الحاسب الآلي بالشركة ، أشار لي موظف الاستقبال إلى اتجاه المصعد الكهربائي وأخبرني بأن القسم في الدور الثامن ، خرجت مجددا من بين ازدحام الواقفين وتوجهت نحو المصعد ، حين كنت بالمصعد رن هاتفي الجوال إنها والدتي ، رددت عليها بفرح وتوتر ومشاعر مختلطة لم أتمكن من وصفها ، كانت تطمئن أنني استيقظت وتوجهت إلى موعدي ، لاسيما وأن بحثي عن العمل أجبرني على الانتقال من المدينة التي تسكنها أسرتي فاضطرني للعزوبية والغربة .
أغلقت الخط على صوت دعواتها المتكررة لي بالنجاح ، كانت نبضات قلبي تتسارع بتسارع أرقام أدوار المبنى التي تطل عبر شاشة زجاجية في المصعد ، وصلت أخيرا للدور الثامن ، كان واسعا وبه ردهات مختلفة الوجهة وأقسام يتوه بها من لا يعرفها ولدى إحدى طاولات الجلوس كان يقف عامل نظافة يمسح بفوطة يحملها جوانب الكراسي وأسطح الطاولات ، توقفت لأسأله عن قسم الحاسب الآلي فأشار بيده إلى الخلف ، نظرت فوجدت لوحة كبيرة كتب عليها "قسم الحاسب الآلي" وسهم يشير نحو اتجاه القسم ، توجهت نحوه لم أتوقع أن يكون القسم الذي سأعمل به بهذا الحجم ، يبدو كذلك أنه يحوي أقسام أخرى بداخله ، أسير بخطى غير متزنة بين المكاتب باحثا عن مكتب رئيس القسم ، ولازال قلبي يخفق متوترا ، ها قد وصلت إلى مكتب سكرتير رئيس القسم ، إنه شاب من جنسية عربية ، كان مشغولا لدرجة أنه لم يلاحظ دخولي ، حاولت إصدار أي صوت ، لكنه غارق في الرد على الهواتف وترتيب ملفات وأوراق اكتظ بها مكتبه . اقتربت من المكتب فنظر لي وبعد دقائق أغلق سماعة الهاتف ، يبدو أنه كان غاضبا أو متوترا مما زادني توترا ، حاولت ابتلاع توتري وأخبرته بموعدي المسبق مع الرئيس لإجراء مقابلة شخصية للوظيفة المعلن عنها ، ابتسم بسخرية وسألني بنبرة مستفزة "لماذا تأخرت؟ كل من تقدموا للوظيفة انتهوا من مقابلة رئيس القسم" شعرت بدوار طفيف في رأسي وأنا أحاول استيعاب ما يقول ، وعلامات استفهام ترتسم في أنحائي فاسأله : هل يعني هذا أنني لن أتمكن من مقابلة الرئيس وأن فرصة العمل طارت مني؟!
رد عليً وقد عاد لانشغاله : لا أعلم انتظر هنا حتى يتفرغ رئيس القسم وأتمكن من توجيه سؤالك إليه .
ارتميت جالسا على الكرسي المقابل لمكتبه وذهبت بي أفكاري بعيدا نحو السنوات التي أمضيتها بعد تخرجي دون عمل ، يمر شريطها مسرعا بتفاصيله التي لا أريد تذكرها .
مللي ، ونظرات الناس من حولي ، والجهات التي تقدمت إليها بطلب العمل ورفضت ، والدورات التي حصلت عليها ، وفشلي المتكرر في إيجاد عمل يمكنني من العيش كما كنت أحلم أن أعيش ..
هل يعقل أن أعود لتلك الحياة بعد أن بنيت آمالا كبيرة على هذه الفرصة ؟ "هكذا أنهيت سلسلة أفكاري بتساؤلات لا تجد لها مجيباً"
لازلت أشعر بدوار يفقدني توازني ولازال السكرتير منشغلا فيما أمامه والرئيس لم يتفرغ بعد ، "كم هي ثقيلة لحظات الانتظار" أخذت أجوب المكان والأسقف وزوايا المكتب بنظري مستغرقا في تفكيري ، طرأت ببالي دعوات والدتي في اتصالها علي قبل أن أصل ، وابنة جارنا التي طالما حلمت بالزواج منها ومنعتني بطالتي ، والآن ذهبت وتزوجت ولم تنتظرني ، يقطع حبل أفكاري ويردني من شرودي نداء السكرتير وهو يخبرني بأنه قد حان وقت دخولي على الرئيس ، نظرت للساعة لقد مرت ساعتان ونصف وأنا انتظر .
نهضت وعاد توتري بعد أن هدأ بانتظاري ، وتوجهت نحو مكتب الرئيس ، في كل خطوة كنت أخطوها نحو مكتبه تشدني آمال كبيرة ، وطموحات لا تنتهي لكنها تمتزج بخوف لا أعرف مصدره ، وخلفي عثرات وتجارب سلبية كم أتمنى لو أضرم فيها نارا فتختفي من ذاكرتي .
طرقت بابه الذي كان مفتوحا وقال لي بصوت ثقيل : ادخل
دخلت ولازالت خطواتي تحاول استعادة توازنها ، مد يده يريد تناول ملفي ، ناولته إياه وهو لازال ينظر في جهاز حاسوبه ، أخذ الملف وتصفحه بسرعة عجيبة ثم نظر إليً قائلا : "اعتذر منك لست الشخص المطلوب لهذه الوظيفة" ، اكتفى بتلك الكلمات وعاد لانشغاله!
ازداد الدوار برأسي وشعرت برغبة كبيرة في السقوط أرضا، حاولت استعادة سماع كلماته ، لم أتمكن تناولت ملفي بيدي التي كانت ترتعش ، غشاني ضباب في آفاق نظري ، عدت للوراء دون التفوه بكلمة ، اصطدم ظهري بالباب واستدرت خارجا من المكتب وأنا لم أستوعب بعد هذه الصدمة التي أتت كالصاعقة على رأسي .
لا أعلم كيف حملتني قدماي حتى وصلت السيارة ، ولا أعلم أيضا كيف سرت حتى وصلت المنزل ، كل ما أتذكره أنني عدت لفراشي ولحافي الذي احتواني طيلة أيام بطالتي عن العمل ، أغلقت هاتفي المحمول وأخرجت البطارية من ساعتي ، ثم تكومت كالمحموم تحت اللحاف .
- 28/03/2024 ابو الغيط يستقبل اللورد طارق احمد وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال افريقيا
- 27/03/2024 بإستثمارات 2 مليار جنيه “مزارع بشاير الشوربجى” تٌنشأ أكبر مجمع لصناعات التمور فى العالم فى مدينة الفرافرة – سهل بركة
- 26/03/2024 المملكة ترحب بقرار مجلس الأمن الدولي الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان
- 25/03/2024 «الموسى»: تسهيلات لمشاركة الشركات المصرية في معرضي هيلث تك وسمارت فيوتشر بالرياض مايو المقبل
- 25/03/2024 مواجهات سلسلة FIFA تتواصل في جدة بمواجهتين يوم الاثنين
- 22/03/2024 وزارة الرياضة تُعلن طرح فرصة استثمارية لمشروع “المستضيف المحايد” في مدينتَي الملك عبدالله والأمير عبدالله الفيصل الرياضيتين
- 21/03/2024 الوزير السديري يعلن عن ميعاد إنطلاق بطولة العالم للملاكمة العربية بدولة الكاميرون
- 21/03/2024 نائب أمير مكة يطلع على مشروعات وبرامج قطاع الطيران المدني بالمنطقة
- 18/03/2024 مستفيدو صندوق الشهداء يشهدون ختام جائزة السعودية الكبرى ل «الفورمولا 1»
- 16/03/2024 المملكة ترحب بقرار اعتماد الامم المتحدة”تدابير مكافحة كراهية الإسلام”،
تغريد العلكمي
وداعاً ايتها البطالة ..
Permanent link to this article: https://aan-news.com/articles/9715.html/
1 comment
1 ping
سلوى الطالبي
10/11/2017 at 9:36 ص[3] Link to this comment
كم هومؤلم مايواجهه ابناءنا وشبابنا من بطالة تقتل كل احلامهم طموحهم تطاعاتهم وقد تنجرف بهم الى شواطي الضياع والانحدار