حين تسرح بنا الذاكرة نحو فجرها البعيد ، لا يقفز إليها إلا تلك الشخصيات الإنسانية العظيمة التي عملت بكل تجرد وابتعدت عن مفاخر الدنيا ومباهجها ، ووهبت نفسها لعمل الخير وانبرت للعطاء ، تتلبس بثوب المنفعة وتتسربل برداء الخير وتلتحف بمفاهيم الإيثار ، وتتمثل بمبادئ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) وهم في دأب مستمر وفي عزائم تَقّهر وقاء شح النفس أملاً في فلاح الدارين الدنيا والآخرة ، وأنا بالأمس القريب أتابع الإعلاميين وهم يوثقون الدور التنموي في وادي ثروق بدوس محافظة المندق ، الذي يستحق أن يسجل بمداد من ذهب في شراكة مجتمعية أمتازت عن غيرها وقل لها نظير أو مثيل على مستوى المنطقة ، تُوثّق تلك اللحظات التي تتوافق مع تطلعات القيادة وفقها الله ومع راهن المرحلة ومع آمال وتطلعات سمو سيدي أمير منطقة الباحة صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور حسام بن سعود يحفظه الله في مشاهدات باذخة من واقع الجغرافيا وملامح الآثار والتاريخ حيث الساحة التي استضافت وفد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه حين رحلة الكفاح لتوحيد هذا الكيان العظيم والأحداث المبهجة التي عاشتها دوس وأنفرد بضيافتها قصر شهران أثناء المقدم الميمون للأمير عبدالعزيز بن إبراهيم آل إبراهيم رحمه الله قبيل منتصف القرن الرابع عشر الهجري بما يقارب عقد من الزمان حين كان أميرا للطائف، أود هنا أن أشير إلى مسمى القصر حيث اشتهر بهذا الاسم تبعا للحرفي الذي شيّد هذا البرج من قبيلة بني شهر الذي كان يتقن مهارة فن العمارة وتشييد المنازل الحجرية ، كانت تلك المشاهدة التي بثت عبر الوسائط الرقمية للمشروع المنجز سارة لكل محبي الوطن والتنمية لأنها ترصف طريقا يمتد على ثراء هذا الوطن المعطاء نحو المزيد من النماء والتقدم والازدهار، ليتم أفتتاح ذلك المشروع الذي بدأ به المهندس صالح بن رمضان آل مسفر الدوسي ، حينها تذكرت سيرة والدة العطرة وأيقنت أن امتداد الخير لا ينقطع من عقبه، واستلهمت حضور آخر لدوس من خلال قصيدة بحتري الباحة الشاعر حسن الزهراني التي أسماها دوس حين قال فيها :
هذا البهاء الذي شعّت مفاتنه ....... بدا لنا منه مقروء وملموسُ
فلتهنئى بجميل الحب تعزفه ....... لك القلوب مدى الأيام ياااادوسُ
مرحلة جديدة ومتوثبة نحو هذا الجزء الغالي من الوطن ، ومن الضرورة أن توثق ليس لأنها تسهم بشكل مباشرة في تنمية مستدامة فحسب بل لأنها تقدم نموذجا يحتذى ، وكذا تحدِثُ أثرا عميقا في كل من يتطلع إلى خدمة هذا الوطن المعطــاء في ظل قيادتــه الرشيـــدة وفقهــــا الله ، فالمواطنة الحقيقية هي كل استشعار بالمسئولية نحو الوطن بنفع متعد لتصل نتائجه بتداعيات إيجابية تنعكس على المواطن والمقيم ، وتمتد لنواحي مختلفة ومنها الجوانب الاقتصادية كما تنشدها رؤيتنا المباركة 2030 ، وكمُشاهد لمسرح المشروع وأحداثه من خلال البث الرقمي رصَدَت الذاكرة ذكرى سجايا عظيمة لوالد المهندس الشيخ رمضان بن مسفر رحمه الله ، عرفته كما عرفه غيري بهيئة الإنسان اللطيف المتجرد من كل علائق الدنيا ،عرفته كما عرفه غيري بمحياه البشر صاحب سجية ونقاء وطُهر، كان ورعا حريصا على أداء كل الصلوات في وقتها في الجامع الكبير الذي يقع على تخوم القرية وكان حين اختلاف الوقت مع دورة الزمان يذهب عَجِلاً إلى إمام الجامع الشيخ محمد المطوع رحمه الله ليضبط المنبه قبل أن يرتفع صوت الحق بوقت كاف، ليقرع منبهه الليلي أجراسه لتدوي في جنبات بيت شهران بطوابقه الأربع ، عرفته كما عرفه غيري يتجاهل وجاهة بيته وأمجاد أسرته ، سارب بالنهار ومستخفٍ بأطراف الليل ليمد بيمين العطاء متواريا عن الأنظار ودون أن يشعر به أحدا ليجعلها خبيئة يتقرّب بها إلى الله ، واليوم يتشكل من عقبه عطاء للوطن وإنسانه، في ثمرة خير جاء بها صلاح الأب في قطوف يانعة تستحق أن نقف عليها بوعي وفي استلهام حقيقي لقول الحق تبارك وتعالى ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) فرحم الله من انتقل إلى دار القرار واخص الشيخ رمضان ، وخلف الله على تلك الأسرة الكريمة التي جسدت عطاء مستمر لم يكن منفصلا عن الماضي بكل مراحله بسيرتها العطرة وذكّرِها لايزال ذائع وشائع ممتد بين الناس ولم ينقطع .. والى لقاء